وبهذا الوضوح الكامل لمسئوليته، وبهذا الاستغراق العظيم فيها، يستكمل الولاء زواياه، بالإخلاص المطلق الذي يربطه بهذه المسئولية أوثق رباط، والإخلاص للمسئولية يشكل السياج المنيع الذي يحفظها داخل موضوعيتها، ويصونها من تقحم الأنانية والهوى عليها، وهذا هو جوهر الإخلاص لدى أمير المؤمنين -عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فهو لا يستغرق فيها استغراق من يريد أن يبلغ بها مجدًا شخصيًّا أو مغنمًا ذاتيًّا، بل استغراق فان فيها، متبتل لها، ليس بين يديه ولا من خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله شيء يلهيه عنها، أو يغريه بها؛ إنه إخلاص يعكسه إخلاصه لله رب العالمين، ورجل كعمر حين يخلص لله فلا تستطيع ألف دنيا كدنيانا أن تدخل في هذه الصفقة ندًّا أو شريكًا.
لقد كان رضي الله عنه وأرضاه دائم الترديد لهذه الآية الكريمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: من الآية: 106) واتخذ منها نذيرًا يلهب به نفسه؛ لتبلغ بإخلاصها لربه ولدينه ولمسئوليته أقصى ما يستطيع أولو العزم الراشدون، وكان يدرك بنور بصيرته -رحمه الله- أن أدنى مجاملة على حساب إخلاصه لمسئوليته إنما هو شرك خفي، من نوع ذلك الشرك الذي حذر منه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه مخبرًا أن له دبيبًا كدبيب النمل.
لقد نجح عمر -رضي الله عنه- نجاحًا باهرًا في صون إخلاصه من دبيب النمل هذا، وأضحى الناس يقول بعضهم لبعض: هذا أول خليفة أموي لا نجد حاجة في قرع بابه، فإنما يكون لنا من حق يأتينا ونحن في دورنا، وما ليس لنا بحق فدون بلوغه قطع الرقاب.
أجل لم يكن لإخلاص ابن عبد العزيز مزاحمٌ ولا منافس لا من قرابة ولا من صداقة. إن تاريخ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -تبارك وتعالى- تاريخ مليء بالأحداث الجميلة والكريمة. ذلك أنه كان نموذجا يقتدى ويحتذى به في العدل والورع