" إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس، أنّهم مؤمنون حقّا، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان، بلاء وجهادا.
وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» لا يتعلق علم اللّه بجهادهم وصبرهم. فعلم اللّه واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون، ولكن المراد بالعلم هنا، علم المعلوم فى حال وقوعه، أي علمه على الصفة التي وقع عليها .. وهذا وإن كان واقعا فى علم اللّه، إلا أنه علم غيب لما سيقع، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع.
والذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، تعقيبا على هذا الحدث ـ هو عزاء جميل من اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ وللمؤمنين .. ففى قوله تعالى: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» نفحة من اللّه، تنزل على النبىّ وعلى المؤمنين معه، بما يهوّن عليهم كل مصاب، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا» يكون ما يوهن ويضعف، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟
وسبحانك ربى! ما أوسع رحمتك، وما أعظم فضلك، وما أكثر برّك بالمؤمنين، ورعايتك للمجاهدين!! تبتليهم فى أموالهم وأنفسهم، لتضاعف لهم الأجر، وتعظم لهم المثوبة، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات! وفى قوله تعالى: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» حكم من لدن حكيم عليم، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما فى المنزلة العليا فى هذه الحياة .. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا، مصداقا لقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141: النساء) وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تثبيت للمؤمنين على الإيمان ..
وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا، وأنهم الأعلون أبدا ..
وقوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به فى أنفسهم، ولما أصيبوا به فى أهليهم ..