نام کتاب : ذكريات نویسنده : الطنطاوي، علي جلد : 1 صفحه : 316
كانت (وأظنها لا تزال) تحفة في فنّ البناء، ومثلها (وإن كانت دونها في جمالها) محطة العنبرية في المدينة. وقد سمعت أنهم يفكّرون في هدمها، فإذا قبلتم مني فدَعوها، دعوها فكأنكم إن هدمتموها قتلتم رجلاً في ذهنه تاريخ وفي جعبته تحف ومعه قطعة من بلادكم، فلا تبتروا قطعة عزيزة من جسد بلادكم.
وكانت المحطّة "مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمِن مسافر عجِل ومن مودّع باكٍ، ومن بائع ينادي، ومن آتٍ وذاهب وطالع ونازل. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا وإلى جانبي أختي الصغيرة، أنظر إلى بعيد فأرى هناك، في أخريات الناس، امرأة تمسك بيدها طفلين متلفّعة بملاءة لا تُبدي منها شيئاً، ولكنّ وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا في القطار، وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً ويسيل حباً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجوف وزلزالاً يدكّ نفسها دكاً، بَيْد أنها صبرت على هذه كما صبرت على غيرها، فأجزل اللهمّ لها الأجر على هذا الصبر.
وصفر القطار يحملنا إلى مصر فازداد القلب خفقاناً واضطراباً، ثم نفث دخانه كأنما هو حيّ تملّكه موقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين والألم الحبيس، ثم هدر وسار. وراحت المحطّة تبتعد عنا وعيني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوّح لي بمنديل أبيض ... حتى غاب عنّي كل شيء:
وتلفّتَت عيني فمُذْ خَفِيَتْ ... عنّي الطّلولُ تلفّتَ القلبُ
نام کتاب : ذكريات نویسنده : الطنطاوي، علي جلد : 1 صفحه : 316