نام کتاب : ذكريات نویسنده : الطنطاوي، علي جلد : 1 صفحه : 204
وعكفنا عليه وملأنا حواشيه البيض بتعليقات الأستاذ وفوائده، ثم ضاقت عنها فألحقنا بين كل صفحتين من الكتاب صفحتين أو أكثر نملؤها بما نستفيده منه، وعرفنا يوماً بعد يوم مقدار النعمة التي أنعم الله بها علينا حين جعلنا تلاميذ سليم الجندي. وكنا نفاخر إخواننا الذين يُقرِئُهم الشيخ الداودي ونأتي بالصعاب والمعضلات، نتصيدها من كتب الأدب وأفواه العلماء فنطرحها عليهم، فنحظى نحن من الجندي بأجمع الجواب بلا مراجعة ولا كتاب، ويرجعون هم بلا جواب.
وما أنتقصُ الداودي رحمه الله، فلقد كان معلماً فاضلاً، وكانت له أخلاق أعطر من زنبق الحقل وأطهر من ثلج الجبل وله قلب أثمن من الذهب، ولكنه ليس من بابَة الجندي. والذهب ذهب، ولكنك إن قابلته بالجوهرة المفردة وارى بريقَه حياء.
وأحببت الأستاذ الجندي حب الولد أباه، وعرفت قدره فكنت لا أكفّ عن سؤاله، أسأله في الصف، وألحقه في الفرصة، وأدخل معه غرفة المدرّسين؛ أشرب من معين علمه ولا أرتوي، أتزوّد من هذا المنهل العذب لسفري الطويل في بيداء الحياة. أسأله عن الغريب فلا تغيب عنه كلمة منه، كأنه وعى المعاجم وغيّبها في صدره. وأسأله عن التصريف والاشتقاق فيجيب على البديهة بما يُعيي العلماءَ جوابُه بعد البحث والتنقيب. وأسأله عن النحو فإذا هو إمامه وحجته. وألقي إليه بالبيت اليتيم أجده في كتاب، فإذا هو ينشد القصيدة التي ينتمي إليها (أو أكثرها) ويعرّف بالشاعر الذي قالها.
نام کتاب : ذكريات نویسنده : الطنطاوي، علي جلد : 1 صفحه : 204