إذاً لم يبق إلا الاحتمالُ الثالث: وهو أنه ممكن الوجود، أي أنه جائز فيه أن يوجد أو لا يوجد على حدٍّ سواء. ولكنَّ الكونَ موجودٌ فعلا, فإذاً لابد من وجود مرجح خارجي لأحد الأمرين المستويين: الوجود و العدم. فإن ْ قال قائل: إن الكون هو الذي أوجد نفسه. قلنا هذا يستلزم الترجيحَ بدون مرجح, لأنه لو أوجد نفسه لكان واجبَ الوجود, ولكننا اتفقنا على أنه ممكن الوجود, فلزم أن يكون قد أوجدته قوة أخرى خارجة عنه ومباينة ٌ له في ذاتهِ وصفاتهِ. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) [الطور/35،36]}
فإن قال القائل: يمكن أن تكون قوةٌ أخرى- سوى الله تعالى - هي التي أوجدته, قلنا سترى بطلان هذا الفرض في الأدلة التالية:
ثانيا: بطلان التسلسل:
إن احتمال أن تكون قوة أخرى- سوى الله تعالى- قد أوجدت هذا الكون باطلٌ, لأنه يؤدي إلى التسلسل, وهو أن تطردَ الاحتمالات بصورة مستمرةٍ دون أن يصل العقلُ إلى شيءٍ يستقر عليه في حكمه. فلو قال القائل: إن الكونَ يحتمل أن يوجده سوى الله تعالى. قلنا له: وهذا الموجد المفترَضُ، من الذي أوجده؟ فإن قالَ: أوجده موجدٌ غيره. قلنا: إن هذا سيؤدي إلى أن يكون كل واحد في السلسلة علةً لوجود غيره إلى ما لانهاية، وهذا باطلٌ. فإذاً هذه السلسلة لابد أن تنتهي إلى ذاتٍ موجودةٍ واجبةِ الوجودِ، أوجدتْ نفسها، حتى ينتهيَ التسلسلُ، وهذه هي الذاتُ الإلهيةُ.
ثالثا: بطلانُ الدور:
الدورُ هو توقف وجودِ أمر ٍعلى أمرٍ آخر، إلا أنَّ هذا الأخير متوقف في وجودهِ على وجودِ الأول, وهذا باطلٌ غير مستقيم عقلا. مثاله: لو قلنا إن وجودَ البيضة متوقفٌ على وجود الدجاجة، إلا أن الدجاجةَ متوقفةٌ على وجود البيضة, لما وجد كلاهما لاستحالة ذلك. وهذا هو الدور. فلو قال القائل: إن الكون حادث وله علة, إلا أن هذه العلة المؤثرة في وجوده عبارةٌ عن التفاعلات الذاتية لذراتهِ الأولى, والتي استمرت لملايين السنين حتى انتهت إلى هذا الكونِ, أي أن الطبيعةَ هي التي أوجدته.