ومع هذه الأدلة قد عَميَ عنها من لبَّسَ عليهم الشيطان، فأضلَّهم عن سواء السبيل من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم فقالوا: إنه تعالى لا يُرى، وهذا ليس غريبا منهم، فالذين ينفون عن الله كل الصفات حقيق بأن يقولوا: إنه تعالى لا يُرى، بل لعل قولهم: إنه لا يُرى هو من لوازم نفيهم لجميع الصفات؛ لأن نفي جميع الصفات يستلزم نفي الذات، والمعدوم لا يُرى، فقولهم بنفي الرؤية مناسبٌ لمذهبهم في التعطيل.
ومن شبهاتهم في ذلك استدلالهم بقوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام: 103] فقالوا: معناه لا تراه الأبصار.
وأُجيب [1] عن هذا بأن قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) نفي للإحاطة، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وعلى هذا فالآية دالة على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنها دالة على إثبات الرؤية من غير إحاطة.
وقد قيل في تفسير هذه الآية: لا تُدركه الأبصار في الدنيا، أو لا تُدركه أبصار الكفار [2]، وهذان تفسيران مرجوحان:
أولا: لأن الإدراك أخصُّ من مطلق الرؤية، وليس المنفي الرؤية.
ثانيا: إنه على هذا التفسير لابد من التقييد أو التخصيص، أما على التفسير الأول لا تدركه، فالآية على إطلاقها.
ومن صفات ربنا أنه لا تُدركه الأبصار، وهذه صفة سلبية، وتقدم [3] أن النفي الذي من صفات الله تعالى لابد أن يتضمن ثبوتا، [1] منهاج السنة 2/ 317، وبيان تلبيس الجهمية 4/ 420، وعنه في حادي الأرواح 2/ 618. [2] تفسير الطبري 9/ 464 - 465. [3] ص 33 عند قول الطحاوي: ولا يعجزه شيء.