والمرة الثانية: حين قال عن الاستصحاب: استصحاب الحال من أضعف الأدلة؛ وعلة ضعفه تقدم السماع، والقياس، والإجماع عليه.
ونلحظ في كلام الأنباري تأثره بالفقهاء؛ فقد نقل هذا المصطلح من علم أصول الفقه إلى علم أصول النحو، ولم يذكره أحد قبله، ووصفه بأنه أضعف الأدلة؛ كما وصفه الفقهاء بأنه آخر متمسك للناظر، وبأنه: آخر مدار الفتوى؛ فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس؛ فإن لم يجده يأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات.
ويدل على ضعف هذا الدليل: أنه لا يجوز الاستدلال به إلا إذا لم يوجد دليل آخر؛ فإن وجد دليل آخر؛ لم يجز الاستدلال بالاستصحاب.
يقول الأنباري في (الإغراب في جدل الإعراب): "وأما استصحاب الحال فلا يجوز الاستدلال به ما وجد هناك دليل بحال". انتهى.
ومعنى ما ذكره الأنباري: أنه يشترط لصحة الاحتجاج بالاستصحاب ألا يجد المستدل دليلًا غيره، وضرب الأنباري لنا مثلًا وهو: أنه لا يجوز التمسك بالاستصحاب في إعراب الاسم مع وجود دليل البناء وهو مشابهة الاسم للحرف؛ وكذلك لا يجوز التمسك به في بناء الفعل مع وجود دليل الإعراب وهو مشابهة الفعل للاسم؛ لأن الاستصحاب تمسك بعدم الدليل؛ فإذا قام الدليل بطل التمسك بالأصل، ويستوي أن يكون هذا الدليل الذي عارض الاستصحاب سماعيًّا أو قياسيًّا؛ لأنه إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع أو قياس؛ فلا عبرة بالاستصحاب، أي: لا اعتداد به ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه؛ فيقدم السماع أو القياس على الاستصحاب.