دقيقة، فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمَة -أي: سابقة في الأمر- وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية. ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحًا أكثر وضوحًا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: إنما قدمنا البصريين أولًا؛ لأن علم العربية عنهم أُخذ" انتهى.
ويذكر الدكتور شوقي -رحمه الله رحمة واسعة- أنه يظهر أنه كُفل للبصرة اتصال ببعض الثقافات الأجنبية في القرن الثاني للهجرة ما لم يُكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريًّا للعراق على خليج العرب، فنزلتها عناصر أجنبية أعدت لوصلها بثقافاتها المختلفة، وهكذا نشأ النحو، وتكوَّن في البصرة، وكانت الكوفة وقتذاك منشغلة عنه بالقراءات وروايتها رواية دقيقة، وبالفقه كذلك. كما عنيت عناية فائقة برواية الأشعار القديمة وصنعة دواوين الشعر، وإن كانت لم تعن بالتحري والتثبت فيما جمعت من أشعار؛ حتى إن أبا الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) ليقول: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيِّن في دواوينهم" انتهى.
ويقول الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): "أما الكوفة فهي أدخل في العراق، وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يَمَن، وبها قليل من قبائل أخرى، واليمن لا يُحتج بلغتها؛ لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء السماوة الشاسعة، فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء البصرة"، ويذكر لنا الأفغاني قصة نقلًا عن (وفيات الأعيان) هي أبعد في الدلالة على ما حكاه أبو الطيب اللغوي، وهي قصة خلف الأحمر، وهو راوية علماء