نفسه باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحِسبة، ولكل امرىء ما نوى، فَدَخل فيه الإيمانُ، والوضوءُ، والصلاةَ، والزكاةُ، والحجُ، والصومُ والأحكام ... إلخ.
ثم الحديث لما كان عامًا عندي فينبغي أن يكون التقدير أيضًا كذلك كالنماء، والزكاة، والعبرة، والثمرة، والحِسبة: فمعناه، نماء الأعمال وزكاؤها وعبرتها وحسبتها بالنيات. ولست أريد من العبرة والحِسبة الفقهي، لئلا يرجع الكلام إلى موضوعه بالنقض، بل أريد على حد قوله صلى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالخواتيم»، وفي لفظ: «العبرة بالخواتيم» أو ما سواها من الألفاظ التي تدل على اعتناء جانب الموافق، وعدم البطلان بجانب المخالف. وهذه الألفاظ كلها كذلك. وكأن تقدير الألفاظ إليك بعد ما عرفت حقيقة المراد. فهناك ثلاثة أشياء: العمل، والنية، والغاية. فأشار إلى الأول بقوله: «فمن كانت هجرته» فالهجرة عمل، وإلى الثاني بقوله: «إلى الله» فهو نية، وإلى الثالث بقوله: «فهجرته إلى الله ورسوله» وهو غايته، وهكذا في الجملة الثانية.
الفرق بين القرينتين
قد سبق إلى بعض الأذهان أن قوله: «وإنما لكل امرىء ما نوى» مؤكد لقوله: «إنما الأعمال بالنيات» مع أنهما يفترقان من وجوه. منها كما قال الشيخ السِّندي: أن الجملة الأولى جملة عرفية تجربية وليست بتشريع. أقول: وله نظائر كقوله: «لكل أمةٍ أمين، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». «ولكل شيء زينة، وزينة القرآن آخر البقرة». فكون الأمين في كل أمة وكون الزينة في كل شيء أمر يعلمه أهل العرف أيضًا ويستعملونه فيما بينهم. ثم جاءت الشريعة ونبهت على أن تلك الحقيقة سرت إليها أيضًا، فدلت على أمين هذه الأمة. وهذا مما لا يُعلم إلا من تلقائه على حد. «وزينة القرآن» وهي لا تُقتنى إلا من جهته، فبيَّن أنها البقرة، وكذلك: «الأعمال بالنيات» جملة يستعلمونها أهل العرف ويقوله: هذه ثمرة أعماله "يعني عملون كي بهل".
والجملة الثانية: «وإنما لكل امرء ما نوى» حكم من جانب الشرع وتشييدٌ لما جرى بينهم وتحقيقٌ لما اعتبروه. وقيل: إن الأولى علة فاعلية، والثانية غائية، ففي الأُولى بيان للنية وهي مؤثرة، وفي الثانية بيان للغاية والثمرة. إلا أن الأغبياء جعلوا الغاية أيضًا علة فاعلية لفاعلية الفاعل، إلا أن يفرَّق بين الفاعلية للشيء وبين الفاعلية لفاعلية الفاعل للشيء. وحينئذٍ وإن كانت الغاية فاعلية، لكنها لفاعلية الفاعل للشيء، دون الشيء نفسه. وقيل: أن الأولى في حال الأعمال، والثانية في حال العالمين. وقيل: مفاد الأُولى ضرورة النية في الأعمال، فهي المدار لحبطها وعبرتها. والثانية في تعيين المنوي، فإن لكل امرىء ما نوى، فلا بد أن يعين المنوي.
ثم ما المراد بقوله: «ما نوى» هل المراد منه الغاية والثمرة؟ أو عين ما نوى؟ والأظهر عندي هو الثاني. فكلٌ يجدُ في آخرته عينَ عمله وعين ما ينويه في دُنياه. ولهذه الدقيقة ورد الجزاء بعين ألفاظ الشرط. والناس لما لم ينتقل أذهانهم إليه شمروا للجواب عن اتحاد الشرط