هذا خلاصة كلام الأكثرين منهم، ويحوم حوله كلمات الباقين، والأمرُ بعد في الخفاء!
والذي أراه: هو أن الحديث لم يَرِد في وجود النية وعدمها كما يُشعر به تفاريعهم. وإنما ورد في بيان الفرق بين النية الفاسدة والصحيحة فقال: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» فهذه نية صحيحة. وقال: «ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها» فهذه نية فاسدة، فالحديث فصَّل بنفسه آخرًا ما أجمله أولًا. وصرَّح بأنه لم يرد في بيان حكم الأعمال التي فيها النية والتي ليست فيها النية، بل جاء لبيان منفعة النية الصحيحة ومفسدة النية الفاسدة، وللتنبيه على أن للأعمال ربطًا بالنيات، فلا يغتر أحد بحسن علانيته مع قُبح سريرته، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وليأتكم وهذا الذي يناسب علوم النبوة.
أما الكلام في الصحة، والبطلان، والجواز، والكراهة، فإنما هو وظيفة الاجتهاد. وما يجبُ عليه التنبيه من جهة النبوة. هذا لأن رجلًا يصلي طول ليله، ويصوم طول نهاره، ويجاهد بنفسه وماله، ويحج ويسعى، ومع ذلك لا يزن عمله عند الله جَنَاح بعوضة إذا كان لغرض من الأغراض الدنيوية، وهذا كله لفساد سريرته. ويكون رجل آخر فلا يكون له عمل صالح يُذكر، فييأس من مغفرته، ثم تخرُج له بِطاقة وتُوزَن بسائر أعماله الطالحة فيزنها ويرجحها، وهذا لحسن طويته وطيب نيته. حتى إن الأعمالَ قد تنقلب بالنيات حسنات، كما أنها قد تنقلب بها سيئات. قال تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].
والحاصل: أن بركة الأعمال ومحقها تناط بالنيات على نحو ما عند «ابن ماجه» في: باب التوفي على العمل، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنما الأعمال بالنيات كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفلُهُ فسد أعلاه». وإسناده ضعيف. وكما في الحاشية: الإناء يترشح، بما فيه. والظاهر عنوان الباطن. فتنوع الأعمال وتلوُّنها تدور بالنيات. وليس عملٌ إلا وله صِبْغ بلون نيته؛ إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا. فالنية الصحيحة مثمرة للبركات، وتوجب النمَّاء في الأعمال. والفاسدة تمحو الأجور وتحبط الأعمال. وفي مثل هذا قص الله سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15 - 16] فنعى على من كان نيته هكذا أنه قد حبط عمله. وقال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [البقرة: 264] {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} الآية [البقرة: 265].
ولما انكشف الغطاء عن وجه المقصود، وظهر أن الحديث ورد في جميع أنواع الأعمال، ولم يختص بحكم دون حكم. وإنه لم يتعرض إلى ما فيه نيته وما ليست فيه تلك، ولكنه جاء مادحًا لمن نوى نيةً حسنةً، وقادحًا فيمن نوى نيةً فاسدةً فحبط عمله، علم أن ما ليس فيه نية خارج عن متناول الحديث. وأن الحديث لا مِساس له بموضع النزاع، فينبغي أن يفوض صحة الوضوء بالنية وعدمها إلى الاجتهاد. وما يدلك على أن الحديث عام كما قلتُ ما قال البخاري