في الوضوء من الماء المطلق أيضًا، فإنهم إن أرادوا بالنية الملفوظة والعبارة المخصوصة فلن يجدوا إليها سبيلًا.
وقد صرح ابن تيمية وغير واحد من العلماء: أن التلفظَ بالنية لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم مدة عُمُره، ولا عن واحد من الصحابة والتابعين، ولا من الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. وإن أرادوا بها النية التي تكون قبيل الأفعال الاختيارية، فنحن وهم فيه سواء ولا ننكرها أصلًا. والنية قبل الصلاة ليست إلا أن يعلم بقلبه أنه أيُّ صلاة يصلي، فكذلك في الوضوء. ولا أرى أحدًا من الحنفية أنه يتوضأ ثم لا يكون له شعور في نفسه أنه يتطهر أم لا، فالنية أمرٌ قلبي لا مَنَاص عنها في الأفعال الاختيارية. وإن أرادوا بها زائدًا على هذا القَدْر، فليس إليه إيماء في الحديث ولا حرف ولا شيء.
وجملة الكلام أن النية التي لا تصح العبادات والأعمال بدونها لا تزيدُ على ما قلنا. وهي توجد في وضوء الحنفية والشافعية سواء بسواء، فأين الخلاف وأين الإيراد؟ اللهم أن يفرض كفَرَض - المنَّاطقة زيدًا حمارًا - أن رجلًا جاء وقد مَطَر السحاب من فوقه وابتلت أعضاء وضوئه، فإنه لم توجد منه تلك النية، فهل يُباح له يجتزىء بذلك الوضوء ويصلى؟ فلو كان الاختلاف في هذا الجزء الذي قلما يتفق أن يُبتلى به في عمره الأولى أن يفرزبالبحث عنه ويترك تحت مراحل الاجتهاد، ولا يدخل في مراد الحديث لئلا يصير مرادُه نَظَريًا بعدما كان بديهيًا. ولكن يُعلم من كلام الطرفين أنهم يزعمونه، كأنه مصرَّحٌ في الحديث، فيُلزِم كل واحد منهم الآخر أنه خالف الحديث مع أن الحديث لا مِسَاس له بموضع النِّزاع، كما ستعرف عن قريب إن شاء الله تعالى.
فالحاصل: أن الحديث إن قصرناه على العبادات كما يُعلم من كلام الطرفين، وعلى الثواب، كما يعلم من كلام فقهائنا، فنحن نلتزم أن الوضوء بدون النية لا ينعقد عبادةً. أما أنه لا يصلح للشروع في الصلاة، ولا يقع مفتاحًا لها فلا نسلِّمه، فإنه أمرٌ حسي، ومعنى الطهورية فيه أظهر، فيقع المفتاحية بلا مِرية. وإن ادعوا أن الضروري منه هو الذي يقع عبادة ولا تصح الصلاة إلا به، فذلك نداء من بعيد. ثم إنهم إن أرادوا بالعبادة ما مر تفسيرها في كلام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، فعليهم أن يُقيموا عليه دليلًا، أن الضروري هو الوضوء بهذه الصفة. وإن أرادوا بها ما يؤجر عليه فمسلم. ونحن نلتزمه ونقول: إنّ في وضوئنا أيضًا أجرًا وإن لم يكن عبادة بالتفسير الذي مر، فإن القُرُبات والطاعات أيضًا عبادة، بمعنى أنها يؤجر عليها.
ثم نُورد عليهم سوى ما ذكر: أنكم أوجبتم الدِّية في الخطأ مع أنه لا نية فيه. وقلتم بطهارة الثوب ولا نية فيها أيضًا. فما الفرق بين طهارة الأَنجاس والأحداث؟ حيث جعلتم النية شرطًا في إحداهما دون الأخرى، فأجابوا عن الأول: أن الحديث إنما ورد في الخطاب التكليفي، وهو متعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير، دون الوضعي، وهو أن يكون هذا سبب ذلك أو شرطه، كالدُّلوك للشمس والقتل من الثاني. وعن الثاني: أنه من قبيل التُّروك دون الأفعال. قلتُ: وكلها تفلسف وأمارة عن عدم إدراك المراد وعدم إصابة المرمى.