الاجتهاد. فإن القرآن أطلق في الاغتسال لأنه لم يتعرض إلى الأقل والأكثر لعدم تعيينه في الخارج، فإن عَلِم المجتهد من تحرِبته أنَّ الدمَّ لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُخْصِّص هذا الجزئي من اجتهاده لا بحكم النص. وهذا معنى صحيح لا يخالفه النص أصلًا. نعم لو قلنا: إن القرآن شرط الاغتسال فيما تصرم الدم على الأكثر أيضًا لخالفه وناقضه البتة، ولكنك سمعتَ آنفًا أن القرآن لم يُومِ إليه أصلًا، وإنما جاء على عادتهن في الخارج من اعتبار الأمرين.
وهناك أمر آخر يُعْلَم من كتاب «الناسخ والمنسوخ» [1] عن الطحاوي أنَّ الفرقَ بين العَشَرة وبين ما دونها إنما نُقِلَ عن الإمام الأعظم رحمه الله تعالى في حق الرَّجْعَةِ خاصةً، فالمطلَّقة إذا انقطع دمها لأقلَّ من العشرة، وأدركت وقتَ الاغتسال والتحريمة انقطع حق الرجعة عنها، وليس للزوج أن يراجعها بعدمضيِّ القُرْءِ الثالث إذا انقطع لأقلها في الصورة المذكورة. فهذا الفرق إنما كان في حق الرجعة خاصة، ثم انتقل إلى الصلاة وغيرها أيضًا، ولا ريب أن الطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى لأنه تحصَّل فقهه بثلاث وسائط، فكان ينبغي أن يُعْتَمَد عليها، ولكني لا أعتمد على تلك النسخة لاشتهار المذهب بخلافه، نعم إن ثبت من طريق معتبرة فيكون له وجه.
ثم إنهم قالوا: إنه إذا انقطع دمها لأقل من عشرة أيام لم يَحِلَّ وطؤها حتى تغتسل، ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقَدْرِ أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حَلَّ وطؤها. وهذا يُشْعِر بأن مدة الغُسْل عندهم معدودة في زمان الحيض، ومثله ما قالوا في باب الرَّجْعَة: أن دمها إذا انقطع لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل، وإن انقطع لأقلَّ منها لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل، أو يمضيَ عليها وقت صلاة كاملة. قلت: وإنما أخذوه من هذه الآية: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فإنه اعتُبِرَتْ فيها مدة التطهر من زمان الحيض وأُبيح الجماع بعده، إلا أنهم لا يُفْصِحون بأن مسائلهم تلك مأخوذة من القرآن، فعليك أن تتفكر فيه لينجلي لك الحال.
ومن ههنا اندفع ما عرض لابن رُشْد من عدم الارتباط بين الغاية والاستئناف، فقال: إن مَثَلَهُ كمثل قولنا: لا أُعطيك درهمًا حتى تدخل بيتي، فإذا دخلت المسجد فلك كذا. فالغاية غايرت الاستئناف وكذا الاستئناف يغايرها، والصحيح من الكلام أن يقال: فإذا دخلت بيتي ... إلخ، لاتحادهما فيه. وحاصل الجواب: أن معنى قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ... إلخ أي حتى يَطَّهَّرْنَ ويَطْهُرْنَ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} وطَهُرْنَ {فإتوهن من حيث أمركم ا} فأخذ أحد الفعلين من المعطوف عليه، وحذف مقابله من المعطوف ليكون ذكر الآخر قرينة على حذفه من المعطوف عليه، فحصل الارتباط في غايته. والجواب الثاني أن قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لا يتعلق عندي بالغاية بل [1] وهو لأبي جعفر النحاس الشافعي، تلميذ الطحاوي، وكان معاصرًا لابن جرير المفسر، وكان ابن جرير في مصر وأبو جعفر في بغداد. كذا في تقرير الفاضل عبد العزيز.