قلت: نعم بناؤه ليس على التكرر، إلا أنَّا علمنا من عاداتهن أن طهرهن في الشهر يكون أغلب من الطمث غالبًا، كما في حديث حَمْنَة، حيث عَدّ طمثها ستة أو سبعة، وهكذا هو المعروف في عادات النساء أن طهرهن يكون غالبًا على أيام حيضهن. ولمّا كانت عاداتهن مختلفة جمع القرآن الحيضَ والطهر في الشهر تخمينًا [1].
قوله: (فلا تَقْرَبُوهُنَّ) واعلم أنه قد مرَّ مرارًا أن أنظار الأئمة ربما تختلف في أخذ مراتب الآية، فيأخذ واحد مرتبتها العليا وآخر مرتبتها السفلى، ويتحير فيه الناظر، فيزعم أن هذا وافقها وهذا خالفها، والأمر أنهم يَتَحَرَّون العمل بها أجمعون، ويجتهدون فيها بما يستطيعون، إلا أنه تختلف أنظارهم في المراتب، والأصوليون وإن بحثوا عن العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، ولكنهم لم يبحثوا في مراتب الشيء وكان لا بد منه فقالوا: إن العموم والخصوص يجري في الأفراد والآحاد، والإطلاق يكون في التقادير وأوصاف الشيء، والمراتب بمعزل عنهما.
وظاهر الآية الأمر بالاعتزال مطلقًا، وهو عين ما كان يفعله اليهود، ووجه التفصِّي عنه أن في الاعتزال مراتبَ وهي مجملة فصَّلها الحديث، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم بعد نزولها افعلوا كل شيء إلا النكاح، فمن حاملٍ حَمَلَها على الجماع والاتقاء عن موضع الطَّمْثِ خاصةً، ومن حَاملٍ حَمَلَها على الاستمتاع بما دون السُّرَّة إلى الركبة، لأن حريم الشيء في حكمه، فجعل موضع النجاسة وما يتبعها في حكمٍ واحدٍ، وكلاهما نوعٌ من الاعتزال ومرتبةٌ منه. أما أن المراد في النص أيُّ قدرٍ منه وأيُّ مرتبة، فالله ورسوله أعلم. وسيجيء تحقيق المسألة في بابه.
قوله: (يَطْهُرْنَ) قُرِىء بالتخفيف والتشديد، والحنفية يَعُدُّون القراآت كالآيات المستقلة، فيأخدون منها أحكامًا، فحملوا قراءة التشديد على تصرُّم الدم لأقل من العشرة، لأن التَّطَهُّر تَفَعُّل، بمعنى تحصيل الطهارة من فعله وهو الغسل، وحملوا قراءة التخفيف على تصرُّم الدم على العشرة، فإنَّ طَهُرَ لازمٌ، فيحصل الطهور بأمر سماوي بدون صنعه. قالوا: إنه يجامعها في الصورة الأولى بعد الاغتسال، لأن الدم ينقطع مرة ويَدُرُّ أخرى، فيحتمل العَوْد، فلا بد أن [1] قلت: كيف تستقيم الآية على مذهبهم مع أن المعروفَ في عاداتهن هو التوسط في الحيض، وقلّما تكون امرأةٌ دمُها إلى خمسة عشر. فإِنْ كان حَمْلُ الآية على تكرُّرِ الحيض بعيدًا لأنه نادر، فَحَمْلُهُ على خمسة عشر يومًا أبعدُ منه بعين هذا البيان، لأن تكرر الحيض ليس بأندَر من فرض الدم إلى خمسة عشر، ثم إن ساغ لهم استيعاب الشهر بأخذ الأكثر من جانبٍ والأقل من جانب، فلِمَ لا يجوز لنا أن نأخذ أكثر الحيض من جانب وأكثر من الأقل في جانب آخر! وإنما لم نأخذ بالأكثر مطلقًا في الجانب الآخر لأن أكثرَ الطهر لا حَدَّ له، فلا بد أن نأخذ أكثر من الأقل، لأن الاقتصار على أقل الطهر أيضًا نادر كما علمتَ من حديث حَمْنَة أن أيام طهرهن تكُون أغلب على أيام حيضهن، فإن كان أخذ الأكثر من الأقل بعيدًا في نظر المحاسب، فهو أقرب في نظر الباحث عن الواقع، وإتباع الواقع أولى، وعليه ورد القرآن والحاصل أن الفصل فيه مشكل. كيف ولم يَرِد فيه تحديد من جانب الشرع، وإنما الأمر إلى عاداتهن وهي مختلفة بحسب عِدَادِهِن.