هذه القيود من الإِمام رحمه الله تعالى أو المشايخ؟ فإِن كان من الإِمام، فهو دليلٌ لحوازه عند الضرورة. وعنه: إجازة لُبْس الحرير في الجهاد، فلعلّ في المذهب تضييقًا مع المستثنيات. وأمَّا ما نُقِلَ من عدم الجواز مطلقًا فمحمولٌ على سدِّ الذرائع، ودفع التهاون، ولعلَّهم لم يتحقَّق عندهم الضرورة.
وثَبَتَ عند الطحاوي: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمر عَرْفَجَة أن يَتَّخِذَ أنفافًا نم ذهب لمَّا أنتن من وَرِقٍ»، وكذا: «أباح للزُّبَيْر بن العَوَّام، وعبد الرحمن بن عَوْف لُبْس الحرير لحِكَّةٍ كانت بهما».
وههنا أحاديث كثيرة تدلّ على المنع عند الطَّحاوِي وأبي داود منها: أنه قال: «لا تَدَاوَوْا بحرام». ومنها عند مسلم: «أنها داء ليست بدواء». وعند الطَّحَاوي: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» وأوَّله في «العالمكيرية» بما بَيْنَو عنه السمع.
ومعنى النهي عندي: أن يَتَتَبَّع الشفاء من الحرام؛، فلا يَتَدَاوَى من غيره مع وِجْدَان الحلال، فالمطلوب أن لا يَتَدَاوَى من الحرام ما دام تَيَسَّر له الحلال، وإليه يشير لفظ الجعل، فإِنه يُسْتَعْمَل فيما تَصْرفُ فيه عن حقيقته، كما مرّ تحقيقه في الحديث الأول، وبعده في مواضع. قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82] يعني أنه ليس رزقًا لكم من الله تعالى، ولكنكم تجعلُونه رزقكم من عند أنفسكم، كذلك الله سبحانه وتعالى جَعَلَ لكم شفاءً في الحلال، وأنتم تَطْلبونه من الحرام، فَتَجْعَلُون الحرام مكان الحلال، أنتم من عند أنفسكم، فهذا تقيبحٌ لهم. وهكذا سائر الأحاديث لا تدلّ إلاّ على كراهة التَّدَاوِي بالمحرَّم، وعدم ابتغائه في حالة الاختيار، وإنما أُطْلِق في اللفط سدّ للذرائع، ودفعًا لتهاون الناس.
ثم إنَّه اختار بعضهم أنه ليس في الحرام شفاء أصلًا، وجَعَل يؤوِّل قوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] بأن المراد من المنافع: هو منافع التجارة دون المنافع البدنية.
قلتُ: بل المراد بها المنافع مطلقًا، لا منافع التجارة فقط، لأن ما يكون مأكولًا ومشروبًا، تكون ذاتُه مطلوبةً، بخلاف النقود، فإِنها آلةٌ لتحصيل وليست ذاتُها مطلوبةً، فلو أَرَدْنا بها منافع التجارة فقط، ولم نُرِدْ بها المنافع في أنفسها، لأدَّى إلى جعلها في حكم النقود.
ثم لا يَخْفَى عليك أن القرآن تعرَّض ههنا إلى مهمٍ تَحَيَّرَتْ فيه الأفكار، وكَلَّتْ منه الأنظار، وهو: أن الشرع إذ يحرِّم شيئًا، فهل يبقى فيه منفعة للبدن أيضًا؟ فتعرَّض القرآن إلى هذا الأصل العظيم: أنه يحرِّم أشياء مع وُجُود المنافع فيها، لأن ضَرَرَها يكون أَكْثَرَ من نفعها، ولذا قال: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فسلَّم أن فيهما نَفْعًا إلا أن إثمهما لمَّا كان أكبر حَرَّمَهُمَا، هذدا لا يُعْرَفُ إلاّ من جهته، فهو يْعلَمُ أن الإِثم أكبر، أو النفع أكثر، وبيده الميزان يَخْفِضُ ويَرْفَعُ.
ثم إنَّ الحديث إن كان محمولًا على التَّدْاوِي، لم تُسْتَنْبَطْ منه مسألة طهارة الأبوال. وإن