لتقارب الفعلين، سِيَّما إذا ما رُوِيَ في «مصنَّف عبد الرزاق» عن إبراهيم النَّخَعِي: «أنه لا بَأْسَ بأبوال الإِبل، وكانوا يَسْتَنْشِقُون منها». فَعُلِم أن طريق التَّدَاوِي كان هو النُّشُوق، فيكونُ قرينَةً على حذف الفعل من نوعه، إلاّ أن هذا الأثر عند الطحاوي أيضًا، وفيه: «كانوا يَسْتَنْشِفُون بأبوال الإِبل» بدل: «يَسْتَنْشِفُون»، فوقع التردُّد في لفظ المصنِّف، ثم أن هذا كله ذكرته بحثًا محضًا، وليس بمختارٍ عندي، والظاهر أنهم شَربُوا أبوالها أيضًا، ولكنه كان تَدَاوِيًا إن شاء الله تعالى.
أما البحث الثاني: فهو أن التَّدَاوِي بالمحرَّم جائزٌ أم لا؟ فكلام نَقَلَةِ المذهب فيه مُضْطَرِبٌ: ففي «الكنز»: أنَّ الأبوال لا تُشْرَب مطلقًا، لا للتَّدَاوِي، ولا لغيره. وفي رَضَاع «البحر»: أنَّ المذهب عدم الجواز، وجوَّزه مشايخنا رحمهم الله تعالى بقيودِ مذكورةٍ في الكُتُب. وفي «المستصفى»: أنه جائز لأجل الضرورة بالاتفاق. ولا أدري أنه أراد به اتفاق الأئمة، أو اتفاق المشايخ، وفي «فتح القدير»: أنه جائزٌ مطلقًا. وفي «الطحاوي»: أنَّه يجوز عند الضرورة بما سِوَى المُسَكِّرَات [1]، ثم لا يُعْلَم أنه تحقيقه، أو مذهب لأحدٍ. وفي «الدُّرِّ المختار» في موضع: عدم جواز التَّدَاوِي إلا بطاهرٍ، وفي موضع آخر عن «النهاية»: يجوز إذا لم ينفع غيره، وشَهِدَ به طبيبٌ وَرِعٌ حَاذِقٌ مُسْلِمٌ.
وفي «غاية البيان» للشيخ أمير الكاتب والإتْقَاني: أنَّ أبا يوسف رحمه الله تعالى سأل الإِمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن رجلٍ خَرَج في أَصْبُعه خُرَاج، هل يُعَالِجُها بلف المرارة؟ فنَقَل أنه كرهه، فخرَّج منه بعضَ توسيع.
قلتُ: ولعلّ المذهب أنَّه لا يَجُوز مطلقًا، فاللفظ من صاحب المذهب كان مطلقًا، وفصَّلَهُ المشايخ إلى الضرورة وعدمها، وخَرَّجُوا التفصيل. وأُرِيدَ من التخريج أنَّهم عَيَّنُوا ما كان مُرَاد الإِمام رحمه الله تعالى.، وفصَّلُوا ما كان أَبْهَمَهُ، لا أنهم خَالَفُوه فكان المذهب عدم الجواز، وجاء هؤلاء فجوَّزُوه في حالة دون حالة. وعندي عليه قرائن: فعند الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه لا بأس بشدِّ السِّنِّ بالذهب، فإِذا حاز شدُّه بالذهب، فالتَّدَاوي بالمحرَّم أَوْلَى.
وفي المتون: أَنَّه يجوز شُرْبُ غير الأشربة الأربعة بقَدْر التَّقْوى دون التَّلَهِّي، ولا أدري أنَّ [1] قلتُ: وما فهمته من كتابه: هو أن معنى: "أن الله لم يَجْعَلْ شِفَاءَكم فيما حرَّم عليكم". لإِعْظَامهم إياها، ولأنهم كانوا يَعُدُّونَها شفاءً في نفسها، وأمَّا ما عزاه الشيخ رضي الله عنه، فلم أفهمه من "معاني الآثار"، فلينظر فيه لِيَظْهَر حقيقة الحال، ثم رأيت في "الفتح": أن الحافظ رضي الله عنه أيضًا فَهِم مثل ما فَهِمْتُ، فقال في الفرق بين المُسَكِّر وغيره: لأنهم كانوا يَعْتَقِدُون أن في الخمر شفاءً، فجاء الشرع بخلاف معتقدهم، قاله الطحاوي.
لم يظهر لي فَرْقٌ بين ما نَقَلَه إمام العصر عن الطحاوي، وبين ما نَقَلَه الحافظ عنه، ولأن ما نَقَلَه الحافظ صريحٌ في أنه لم يجعل الشفاء في الخمر، وإن كان للتدَاوِي استئصالًا لِشَأفة معتقدهم في الاستشفاء بالخمر، فأُرِيدَ في قوله: "ما حُرِّم عليكم" الخمر فقط، لا مطلق الحرام، فليكن جائزًا عنده بدليلٍ آخر، وهذا الذي أراده إمام العصر بقوله: يجوز عنده بما سوى المُسَكرات للضرورة، فليتنبه. (من المصحِّح).