احتمال وقوع النجاسة، كما قالوا في سؤر الدجاجة المُخَلاة وليس حاله كالصلاة، فإِنها إما صحيحةٌ أو فاسدةٌ أو مكروهةٌ، فالكراهة فيها قِسم مستقلٌ وليست لأجل مِظنَّة سبب الفساد، فللكراهة أسبابٌ كما أنَّها للفساد، أعني أنَّ الصلاةَ تفسدُ بأسبابها وكذلك تكون مكروهةً بأسبابها.
وليس مرجعُ الكراهة فيها إلى أسباب الفساد، فلا نقول فيها: إن أسباب الفساد إن تحققت فيها بطلت وإلا صارت مكروهة، بخلاف الماء فإِنَّ الحكم بالكراهة فيه ليس من أجل تحقق سبب مستقل لها، بل مرجعُها إلى سبب النجاسة، فإِن تحققت النجاسة فيه يُحكم بنجاسته، وإن تُرُدِّدَ في وقوعها يُحكم بالكراهة، فلم يكن للكراهة سببٌ مستقلٌ. وإذن لا معنى لكراهته إلا كونُه محتملَ النجاسة، فما نظر به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى لم أفهمه نعم، لو كانت كراهةُ الماء لسببٍ مستقل ولم يكن مرجِعُها إلى النجاسة لكان لإِيراده وجه، فإِن الكراهةَ حينئذ كانت لأمر مستقلٍ لا تأثيرَ فيها للنجاسة، كما أن الصلاةَ تكون مكروهةً بأسبابها لا من جهة احتمال أسباب الفساد.
ويلوح من كلام ابن رُشد أَنَّ الكراهةَ عند المالكية قِسم ثالث، كما أن الكراهةَ في الصلاة كذلك عندنا، ولا تكون ناشئةً من جهة احتمال النجاسة. قلت: وهو كذلك عندهم. أمَّا كونها قِسمًا مستقلًا عند الحنفية فلم يثبت عندي، وحينئذ ظَهَرَ الجوابُ عن نظر الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى على أظهر وجه، وبقي الحديث في مسائل المياه حجةً لنا، ولله الحمد على مألهم، والله تعالى أعلم.
والحاصل: أنَّ الشريعةَ أقامت أبوابَ النجاسة كما أنَّها أقامت أبواب النظافة، فإِرجاع أبواب النجاسات إلى أبواب التزكية والتحلي والتخليط بينها بإِقامة جرِّ ثقيلٍ مما لا ينبغي، فالبُصاق في الماء والتنفس فيه من باب النظافة قطعًا، ولذا لم يذهب فيه أحد إلى الفساد، لأنه لم توجد هناك نجاسة ولا احتمالها، بخلاف ما نحن فيه، فإِنَّه لو كان الغَسْل لأجل النظافة فقط، لكان النائم وغيره فيه سواء، كما ذكره صاحب «العناية» في قيد الدائم في قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يَبُولنَّ أحدكم في الماء الدائم وسيجيء»: ولا دَخْل لنومِهِ، إلا أن يدَه احتملت التنجس لتَطْوَافها على مواضع الأنجاس وهو لا يدريه، فكان لا بد أن تنهاه الشريعةُ عن غَمْسِها، فهذا حجةٌ على المالكية قطعًا. وللأعذار الباردة مجالٌ وسيع [1].
27 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ
163 - حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنَّا فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا [1] قلت: ومنهم من جعله حجة على الشافعية بأنه لم يفرق فيما كان الماء قلتين أو دونهما، فعلم أن تأثير النجاسة في القلتين وما دونهما سواء.