فلا بد أن يكونَ لإِلقاء اليدِ المحتملة النجاسة تأثيرٌ في الماء عندها وهو النجاسة، ولذا مَنَعَه عن إلقائِها، وهو الذي فَهِمَه أحمد وإسحاق والشافعي رحمهم الله تعالى، كما يدل عليه عبارة الترمذي والحافظ ابن تيمية، لمَّا اختار فيه مذهب مالك رحمه الله تعالى جَعَلَه من باب النظافة، يعني أن إلقاءَها فيه حال كونِها محتملةَ النُّجاسة بعيدةٌ عن النظافة وإن لم ينجس الماء فهو كالنهي عن البصاق في الماء والتنفس فيه، مع أنهما لا يُنَجسان الماء عند أحد.
وقال في تقريره: إن للشيطان ملامسةٌ وملابسةٌ بالإِنسان، فإِنَّه يبيت على خَيَاشيم بني آدم ولذا أمره الشارعُ بغسل الخياشيم عند الانتباه، وهكذا له ملابسةٌ بيده أيضًا لكونها جارحة، فوردت الشريعةُ بغسلِها قبل غمسها لأجلِ هذا النظر المعنوي لا غير، فإن هو من باب النَّظافة دون النجاسة.
حتى أنَّ الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى أيضًا تأثر منه وقال: ليس فيه تصريح يتنجس الماء بتقديرِ كونِ اليد نجسة، بل ذلك تعليلٌ منها للنَّهي المذكور وهو غيرُ لازم، أعني تعليلَه بتنجس الماء عينًا بتقدير نجاستها، لجواز كونه لأعم من النجاسة والكراهة. فنقول: نهى لتنجُّس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغير، أو الكراهة بتقدير كونها بما لا يغير.
وحاصله: أنَّه يُمكن أن يكون الماءُ على تقدير غَمْسها مكروهًا لا نجسًا، وإنما يكون نجسًا إذا تغير، ولا دليلَ فيه على أنه يكونُ نجسًا عند عدم التغير أيضًا، فإن النهي يكون عن المكروه كما أنه يكون عن النجس.
قلت: أمَّا ما ذكره الحافظ ابن تيمية فقد ذكرنا أنَّه لم يذهب إليه أحد من الأئمة، وكلهم حَمَلوه على باب النجاسة دون النظافة، ثم إنَّ ملابسَتَه إنما هي بمواضع الألواث، فإنه يلعب بمَقَاعِدِ بني آدم ويبيت على الخياشيم لكونها مواضع اللوث أيضًا، أو ملابسته ليُلقي منها الوساوس إلى القلب والدِّماغ، واليد بمعزلٍ منهما، فماله ولليد؟ مع أنَّ الذكر في الحديث لتَطْوَاف اليد وجولانها، فهو الدخيلُ في النجاسة لا ملابسة الشيطان، ولو كانت لتعرَّض إليها أيضًا كما تعرض إلى بيتُوتته على الخياشيم، على أن في الدارقطني: «أين باتت يده منه» وصححه ابن مَنْده الأصبهاني [1].
فهذا صريحٌ في أنَّ المدخل لبيتُوتة اليد على حصة من جسده، لا لبيتوتة الشيطان على يده فجعلَ الحديثُ اليدَ طائفًا وبائتًا، وجعل ابن تيمية رحمه الله تعالى الشيطان بائتًا. وذكرَ الحديث بيتوتَة اليد من جسدِهِ وذكر هو ملابسةَ الشيطان بيده، فأني هذا من ذاك؟.
وأما ما ذكره ابن الهُمَام فلست أُحَصِّلهُ أيضًا، لأنه لا معنى للكراهة إلا أنها لأجلِ النجاسةِ المحتملة، فالكراهةُ أيضًا من فروع النجاسات لا أنَّها باب آخر. وتفصيله: أن الماء عندنا إما طاهر أو نجس إن وقعت فيه نجاسة، وليس فيه قسم ثالث. أما كونه مكروهًا فليس إلا لأجل [1] وابن منده الأصبهاني طاف أربعين سنة في طلب الحديث وقطع مسافة تسعة آلاف ميل ماشيًا، فلما انصرف كان معه أربعون وقرًا من كتب الحديث. هكذا وجدت زيادة فيما ضبطه الفاضل عبد القدير.