قد أقامت أبوابًا عديدة في مسألة المياه، وقصدت أن تعُطي لكل منها حكمًا حكمًا فليأتها من أبوابها ولا يختلط بينها فمياه الآبار حكمُها أنها تتنجَّسُ بوقوع النجاسات، ثم يبقى سبيلٌ بنزحها كلها أو بعضها بعد إخراج النَّجاسة عنها فلا يكونُ نجسًا بحيث لا يَطْهر أبدًا، كما أنَّ المؤمن لا ينجس وأن الأرض لا تنجس. وهو معنى قوله: «إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء». أي بحيث لا يطهر أبدًا أو بحيث كما زعمتم.
ومياه العيونِ حكمها أنَّها لا تتنجس من النجاسات الموهومة غير المقطوعة أصلًا، وذكر القُلتين لأنه إذا بلغَ هذا المقدارُ لا يظهرُ فيه أثر النجاسة غالبًا ولم يرد به التحديد، ولهذا صح فيه لفظ: أو ثلاثًا فهو للتنويع والتقريب، وإن حمله الشافعية على الشك. على أنَّ حديث القُلتين لو حملناه على ما حملوه لكان غريبًا في الباب، فإِن مسألةَ المياه مع كثرة الأحاديث لا يوجدُ فيها ذكرٌ للقلتين، ولا نعلمه إلا من تلقاء ابن عمر. ثم لم يرو عنه غيرَ هذا. فَندْرَته عندهم وعدمُ البحث عنه صريح في أنه ليس بمدارٍ بل نحو تعبير فاعلمه.
والمياه المحرزةُ حكمها أنَّها تتنجس ولا يبقى إلى تطهيرها سبيلٌ غيرُ طرحها، يل يتنجس معها أوانيها أيضًا. ولذا قال: «طهور إناء أحدكم ... » إلخ فهذه أقسامُ المياه وتلك أحكامُها فَرَاعِها وأنزلها في مَنَازِلها، ولا تُدْخِلْ جملتَها تحت حديثٍ واحد (1).
تنبيه
وهناك سهوٌ ينبغي أَنْ يَتَنبَّه عليه النَّاظر، وهو أن الحنفية عند تقرير الاضطراب في حديث القُلتين قالوا: إنه رُوي عن ابن عمر أربعين قُلة. هكذا وجدناه في «فتح القدير» أيضًا، وكنت أظنَّ أن الصحيحَ ابن عمرو وسقط الواو من الناسخ وحينئذ يَخِفُّ الاضطراب، حتى إذا طُبع كتاب البيهقي وجدناه فيه عن ابن عمرو بن العاص، ففرحتُ منه فرحَ الصائم عند الإِفطار. فهذا سهوٌ قد تسلسل في الكتب فلا تَغْفُلْ عنه، والأمر كما قلنا.
أما حديث المستيقظُ فحجةٌ لنا في الباب واستدل به صاحب «الهداية» أيضًا بأنه إذا أُمرنا بغسل اليد عند احتمال النجاسة، علمنا أنها لو كانت على يده حقيقة نؤمرُ بغسلها بالأولى. ومعلوم أنَّه لو غمسها وعلى يده نجاسة لَمَا تغير منها الماء لقُلتها، ومع ذلك حكمت الشريعةُ بغسلها، وليس ذلك إلا لتنجس الماء بهذا الغمس عندها، فأمره أَنْ يغسلها قبل أن يُدخِلَها في الإِناء لئلا ينجسَ الماء كما يشير إليه التعليل بقوله: «فإنه لا يدري أين باتت يده» أي على موضع النَّجاسة أو غيره.