واعلم: أن هذا الحديثَ من مُهِمَّاتِ الحديث وتصدّى لشرحه العلماء [1] والفضلاء، وكتبوا عليه رسائلَ مستقلة ولكنّ الحديثَ مهمٌ، وموضوعُهُ يحتاجُ إلى شرح الأئمة، ولا ينفعُ فيه كلام الآخرين، فإنه يتعلق بالحِلِّ والحرمة. ولا يمكنُ لنا الآن إلا شرحُ ألفاظِهِ فقط، ولو انكشفت حقيقته لوجدنا ضابطة الحلال والحرام من جهة صاحب الشريعة، ولكان هذا فصلًا في الباب، فإن ظاهرَ الحديث أن الحلالَ بيِّن في نفسه والحرام أيضًا كذلك، ولكن لا ندري ماذا أراد بقوله: «مشتبهات» فإن الاشتباه حاصل في كثير من المواضع، ثم لا تكون تلك بين الحلال والحرام، بل تكون تلك المشتبه إما حلالًا أو حرامًا.
والحاصل: أن في الحديث ضَابِطةٌ كليةٌ للباب الفقهي، ولكن لم يتحصَّل عندنا منه شيءٌ غير حلِّ الألفاظ. ولما كان في المثل السائر: ما لا يُدْرَك كله لا يُترك كله، رأينا أن نتكلم عليه شيئًا. فنقول: إن الحديث بعد ذكر الحلال والحرام انتقل من الأحكامِ والمسائل إلى الحوادث والوقائع، وذكر ضابطةً عُرْفية، ولذا تعرض إلى استبراء العِرْض، فاندفع ما كان يخطر بالبال أنه لا دخل لذكر العِرض في باب الحلال والحرام، فمعناه أن الرجل إذا اتقى الشبهات ومواضعَ التهم فقد أحرز دينه عن الضياع وعِرْضَه عن القدح فيه، وهو مرادُ قول علي رضي الله تعالى عنه: إياك وما يَسبقُ إلى الأذهان إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل سامعٍ نكرًا يطيقُ أن تسمعَه عذرًا. فإنه ليس واردًا في المسائل فقط بل أعم منها. وكذلك الحديث وردَ صدرُهُ في المسائل وعجزُهُ في الحوادث مطلقًا. وقوله: «فقد استبرأ» على نحو استبراء المُدَّعى عليه عن نفسه في دار القضاء، أي فمن فعلَ كذلك وترك الشُّبهات فقد أحرزَ نفسَه عن أن تسري أوهامُ الناس إلى دينه كانت أو في عِرْضه. وترجمة قوله: «فقد استبرأ» ... إلخ، "تواس شخص في اينى دين اور آبروكى طرف سى صفائى بيش كردى".
تحقيقُ لفظِ المُشْتَبِهَات
52 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى [1] وقد طالعت فيه رسالةَ الشوكاني فما وجدت فيه شيئًا يعلق بالقلب. نعم، لو مر عليه نحو الشافعي رحمه الله تعالى عنه لأغنى عن الإِيضاح، وهذا الشافعي لمّا كان فقيَه النفس أثنى على محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، بما هو أهله، فتارة قال: إنه كان يملأَ العينَ والقلَب، لأنه كان جميلًا ويملأ القلب من العلم، وقال أخرى: إذا تكلم محمد رحمه الله تعالى فكأنما ينزلُ الوحي. ومرة قال: إني حملتُ عنه وقْرَي بعيرٍ من العلم. وأما المحدثون فمن لم يكن منهم فقيهًا لم يعرف قَدْرَه ورتبتَه ولم تُنْقَلْ عنهم كلماتُ التبجيل في شأنه رحمه الله تعالى، ووجه نكارَتهم أنه أولُ من جرَّد الفِقه من الحديث. وكانت شاكلةُ التصنيف قبل ذلك ذكرُ الآثار والفِقه مختلطًا، فلما خالف دَأبَهم طَعُنوا عليه في ذلك. مع أنه لم يبق الآن أحدٌ من المذاهب الأربعة إلّا وقد فعل فِعلَه وسار سِيرَتَه، فرحم الله من أنصف ولم يتعسف. انتهى تعريب ما في تقرير الفاضل عبد القدير.