مراتبه ولم تبق مرتبة منه يجيءُ البياضُ قطعًا، وما دام مرتبةٌ من مراتب السواد باقية، لا يَحُكم عليه عاقلٌ أن جزأً من البياض موجودٌ فيه.
ونحوه نقولُ في تقسيم الجسم، بأن تقسيمَ الجسم ليس إلى ما لا نهاية له كما زعمه الفلاسفة، بل ينتهي إلى العدم، فإنهم قالوا: إن الاتصال ذاتي للجسم، فإذا فات جميع الاتصالات فلينعدم الجسم لا محالة على قولهم، فإن ارتفاع الذاتي يستلزمُ ارتفاع الذات ومنشأ غلطهم: أن إعدام جميع الاتصالات ليس في طوق البشر؛ لأنه في الحقيقة إعدامٌ للشيء، والإعدامُ والإيجادُ كلاهما في يد المبدىء والمعيد، لا إله إلا هو، فإذا لم يقدروا على إعدام جميع الاتصالات، فهموا أن تقسيم الجسم لا ينتهي إلى نهاية، وليس كذلك، بل ليس هذا في قُدرَتِنَا. ولو استطعنا إفناء جميع الاتصالات لانْتَهَى التقسيم، وانعدم الجسم، إلا أنه بيد الواحد القهار، لا شريك له هو يحيي ويميت.
فكما أنّ الجسمَ لا يزالُ ينقسم، ويطلق عليه الجسم ما دام يبقى فيه اتصال ما، ولا يجيءُ العدم أصلًا إلا إذا فات جميع مراتب الاتصال، كذلك التصديق لا ينتفي إلا بعد انتفاء جميع مراتبه. ولا يلزمُ بانتفاء جزء منه أن يقومَ مَقَامَهُ جزءٌ من الكفر، فإن الإيمان أيضًا عَرْض عريضٌ. نعم بفوات مرتبة بعدمرتبة، يجيءُ زمان ينتفي فيه جميع مراتبه، ثم يطرأ الكفر عليه البتة. ولكنا لا ندري عدد هذه الأجزاء، وأنه متى يجيءُ زمان فوات جميعها؟ إلا أنه نعلم إجمالًا أنه يجيءُ وقتٌ ما قطعًا ينتفي فيه جميع مراتبه. وحينئذٍ ينسلخ عنه اسم الإيمان.
وقد نبهتُك آنفًا على أن هذا البحث لم يجر في السلف، بل هو بحث عقلي، أوجدَه المتأخرون من جانبهم عقلًا. والسلف إنما اختلفوا في نفس الإيمان، لا في جزءٍ منه بعد التحليل. فمن قال: إنه قول وعمل، ذهب إلى الزيادة والنقصان أيضًا، لأنه إذا أدخل العمل في الإيمان، فمن عمل عملًا صالحًا فقد تم إيمانه. ومن نَقَصَ فيه انتقص إيمانه لا محالة على تحقيقه. ومَنْ لم يُدخل الأعمال في الإيمان، بل جعله عبارةٌ عن التصديق، لم يلزم عليه ذلك. فأصل النزاع في إدخال الأعمال في مُسمّى الإيمان، وإخراجها عنه، وإن الإيمان أمرٌ أو أمور. ولذا بوَّبَ البخاري فيما بعد: باب أمور الإيمان نعم، من يجعل الإيمان مركبًا يلزمه أن يذكَر له أمورًا، ومن يجعله بسيطًا لا تكونُ له أمور عنده. ولذا قيل: إن تلك المسألة ليست مستقلةً، بل من فروع الأُولى، أي كون الإيمان قولًا وعملًا.
هكذا كنتُ أفهمُ تحقيق الاختلاف، وإليه ذهب أكثر الشارحين. ثم رأيت [1] زيادةً في مَقُولَة السلف، انقلب منها المراد ففهمتُ حقيقة الحال، وهي أنهم قالوا: الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فبان منه أنهم قائلون بالزيادة والنقصان في التصديق الباطني، دون الإيمان [1] ذكر الحافظ أبو القاسم هبة الله اللالكائي في "كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة": أن الإيمان يزيدُ بالطاعة وينقص بالمعصية. كذا في العيني، ثم عدد أسماء الذاهبين إليه من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم في نحو نصف صفحة. من شاء فليراجع.