ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده، ولذلك قال في الحديث الذي أوردناه عن البخاري سابقاً، إنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة، أي: لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أن زيداً كان يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، زيادة في التوثق، ومبالغة في الاحتياط.
وعلى هذا الدستور الرشيد تم جمع القرآن في صحف بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وأجمعت الأمة على ذلك دون نكير، وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف، ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، والصحابة في المعاونة والإقرار.
قال علي كرم الله وجه: " أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع بين اللوحين1".
وقد قوبلت تلك الصحف التي جمعها زيد بما تستحق من عناية فائقة، فحفظها أبو بكر عنده مدة حياته، ثم حفظها عمر بعده حتى شهادته، ثم حفظتها أم المؤمنين حفصة بنت عمر بعد وفاة والدها، حتى طلبها منها عثمان رضي الله عنه ليستنسخ منها مصاحفه اعتماداً عليها، ثم ردها إليها إيفاء بالعهد الذي أعطاها إياه، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم[2] حينما ولي المدينة فأبت، ثم لما توفيت رضي الله عنها سنة 45هـ، حضر مروان جنازتها،
1 كتاب المصاحف:1/166، وانظر المصنف لابن أبي شيبة: 6/168، والمسند لأحمد:1/230، 354. [2] مروان بن الحكم بن أبي العاص،أو عبد الملك، خليفة أموي، إليه ينسب بنو مروان،ولد بمكة في 2هـ، ونشأ بالطائف،وسكن المدينة، من خواص عثمان رضي الله عنه وكاتب سر له، ولسببه جرى لعثمان ما جرى له، قاتل في وقعة الجمل قتالاً شديداً، وشهد صفين مع معاوية، وتولى المدينة في أيامه، وأخرجه منها ابن الزبير فسكن الشام، وبها توفي في طاعون سنة:65هـ، تهذيب التهذيب: 10/91، الأعلام:7/207.