وما يشغل بالهم وتفكيرهم فى كل وقت وحين، يأخذ أمثلته التى توضح فكرته التى يرمى إلى إيضاحها، ألا وهى حقيقة الألوهية أيضا التى تعزب عن بال أولئك المشركين، يأخذ أمثلته من واقع الحياة الاقتصادية التى يحيونها، تتشابك فيها المصارع، وتتصارع الرغبات، وتبدو الاهتمامات، ويظهر الطمع والجشع، وتبدو النفس عارية على حقيقتها بما فيها من شرور وآثام.
يضرب الله المثل لأولئك الكافرون بما بين أيديهم من أدوات الحياة الاقتصادية التى يستخدمونها وهم العبيد. فهذا عبد مشرك حكم عليه بالعبودية، يتحكم فيه عديد من السادة، ويتنازعون فى رقبته، كل له رغبة قد تتفق وقد تختلف، وهذا العبد حائر بين أيدى سادته، لا يعرف له طريقا، ولا يبصر له نهجا ينقذه من حيرته وضلاله.
ورجل آخر مؤمن له سيد واحد يخضع لما يأمره به، وينفذ ما يريد دون أن تتبدد قواه، أو تتوزع نفسه بين جملة شركاء، يعرف طريقه، ويسير على هدى وبصيرة من الأمر، هل يستويان؟ لا شك أن الأول ضائع، معذب فى دنياه، والثانى منعّم يشعر ببرد الراحة والهدوء فى سيره ونهجه. وكذلك من يعبد غير الله، ويتخذ آلهة له وشركاء فى عبادته مظلم النفس والبصيرة، ومن يعبد الله لا يلتوى به الطريق، ويعرف طريقه نحو خالق السماء والأرض.
لذلك ختمت الآية بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذى اختار لعباده الأمن والطمأنينة، وإن صدرت منهم أعمال تتصف بأعمال الجاهلية، وبعيدة عن روح الدين وحقيقة التوحيد، فأكثرهم لا يعلمون.
6 - قال الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171]. أتى المثل القرآنى عقب آية تندد بكل تفكير معوج، وبالعادات البالية التى سيطرت على أخلاق الكافرين فى أفكارهم، وباعدت بينهم وبين استلهام الضوء من مصدره الجدير بالاتباع والإيمان، فإذا بذل رسول الله نصحه لهم باتباع ما أنزل عليه، غلبت عليهم شقوتهم وأغضبتهم الجاهلية، وفكرهم المريض الذى يدعوهم إلى التقليد، ومسخ الصورة الآدمية التى كرمها الله بالعقل والتمييز، وجعلها جديرة بالاستخلاف فى الأرض، ولذلك كان هذا الرد المعوج الذى تعرضه الآية القرآنية فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170].