هذا هو الإنسان الذى أسلم وجهه حقا لله، وعرف حقيقة وضعه، فتجرد من أنانيته، وكان مستعدا لتلقى وحى الله، ودعوة رسله، لا يخضع لصنم، ولا يركع لوثن، ولا يذل لطاغوت، وإنما يؤمن بمن خلق الصنم والوثن، وخلق الكافر والمؤمن، والحياة والموت، يؤمن بالله الذى بيده الأمر، وهو على كل شىء قدير: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27]، والذى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 19، 20].
يعرض على أولئك الكفار فى هذه الآيات مشاهد مألوفة ومحسوسة لديهم، تقع عليها أنظارهم، وتتصل بحياتهم ومعاشهم، لعلها تثير فيهم نزعة التفكير والتأمل، وتوجه حواسهم إلى أداء وظائفها على أكمل وجه فى الإيمان بالله، والاعتراف بفضله ونعمه التى لا تعد ولا تحصى.
هذا ما يعرضه المثل القرآنى، وما يهدف إلى تحقيقه، ولكن كيف استقبل أولئك المشركون هذا المثل؟
لقد استقبل هؤلاء المشركون هذا المثل الذى يوضح حقيقتهم بطريق المقابلة والموازنة، استقبال أهل الغفلة والضلالة، فهم لا ينظرون إلى الحكمة والمقصد، وإنما يتعلقون بالقشرة الظاهرة، وهذا دأب التافهين الذين لا يفكرون ولا يتعمقون فى الأمر، نظروا إلى ما فى المثل من عنكبوت، وإلى أمثال أخرى تحوى ذبابا وبعوضا، تمثل أحوالهم، وتعرض صورهم، فقالوا: إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب تارة، والعنكبوت أخرى، يتضاحكون ويستهزءون، فرد الله عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [البقرة: 26].
حقا الله سبحانه وتعالى يضرب المثل بالشىء القليل والحقير الذى لا ينال من الكفار حقا من احترام؛ لأنهم جهلوا أن ضرب المثل يحقق حكمة يريدها الله، وهى العظة والاعتبار، زيادة الفهم والإدراك للأمور، وأن الله خالق الشمس والقمر، والكون الكبير، هو الخالق للصغير من الأمر، فليست هذه أصعب من تلك، فإذا اقتضت مشيئة الله أمرا خلقه بقدرته القادرة القاهرة، يشترك فى ذلك النملة والفيل، والكبير والصغير.