يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [1] ويقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [2].
وهكذا، يأمر القرآن الإنسان بالإقبال على الحياة الدنيا للتمتع بطيباتها والاستفادة من نعيمها، على أن يقف قبل ذلك على حقيقة هويتها، ويصحو من الاغترار بمظهرها؛ وذلك كي يكون هو المسيطر عليها والمسيّر لها إلى ما تقتضيه مصالحه وسعادته، ولكي لا تكون هي المسيطرة عليه أو المسكرة له فيغرق في نعيمها وينسى أيّ معنى للوجود من ورائها.
فإذا تأملت في هذا التقويم القرآني، لكلّ من الكون والإنسان والحياة، أدركت أن محور المخلوقات كلها في الرتبة والأهمية إنما هو الإنسان، وأن الغاية التي خلق من أجلها أن يكون مظهرا لحكمة الله تعالى وعظمته وعدالته في الأرض بما يلتزمه من منهج العبودية له تعالى، وأن محور الوجود كله إنما هو الدار الآخرة فالدنيا بكل ما فيها والحياة بكل صورها وأشكالها مقدّمة بين يدي تلك الحياة الأبدية الأخرى، تلك الحياة التي لا تكاد تجد صحيفة من القرآن خالية عن التذكير بها والتحذير من جحودها.
فتلك هي أسس الحضارة الإنسانية التي جاء بها القرآن، والتي أرادها للإنسانية دستورا ومنهجا في هذه الحياة [3]. [1] المائدة: 87 و 88. [2] البقرة: 189. [3] وأخيرا وفّقني الله تعالى لإخراج هذا الفصل الوجيز المكثف، في كتاب شامل عنوانه (منهج الحضارة الإنسانية في القرآن).