المتعة والرفاهية ... فكم هي الكلمات أو الجمل التي تتصور أنها وفّت بالتعبير عن هذه الفوائد كلها؟
إنها ليست أكثر من كلمة واحدة! ...
واسمع في ذلك قول الله عزّ وجلّ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (الواقعة: 72 و 73).
المقوين! ... هذه هي الكلمة التي تحمل المعاني كلها. فالمقوين جمع مقو، أي نازل في القواء (وهو المكان القفر) أو مجتاز بها، وعليه قول النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
والمقوين أيضا من القوى وهو الجوع، وعليه قول حاتم الطائي:
وإني لأختار القوى طاوي الحشا ... محاذرة من أن يقال لئيم
والمقوين أيضا جمع مقو، بمعنى مستمتع، كما قال مجاهد [1] وعموم الاستمتاع في هذا المعنى الثالث، إنما يفسره الزمن وتطور الأحوال وتقدّم أسباب الحياة والعيش.
فهل يطيق بشر، كائنا من كان، أن يخضع اللغة لمقاصده هذا الإخضاع العجيب، فيحشد مثل هذه المعاني المتباعدة في كلمة واحدة، تأتي طوع قصده ومراده، بدون أي تمحّل أو تكلف أو تقعر؟! ...
إن العقل لا يرتاب في أنها صنعة رب العالمين وكلامه.
ويتصل بهذا الذي نقول ما ذكرناه في الخاصة الثالثة من خصائص الأسلوب القرآني، وقد عرضنا في بيان ذلك لأمثلة كثيرة من القرآن، فارجع إليه إن شئت [2]. [1] راجع مادة قوى في لسان العرب والقاموس المحيط. وانظر تفسير القرطبي: 17/ 221. [2] انظر ص 110 من هذا الكتاب.