ولقد قلنا إن مردّ البلاغة الكلامية إلى الدقة في مطابقة اللفظ للمعنى.
وإنما سبيل ذلك أن يتسارع إلى الذهن جميع ألفاظ هذه اللغة وما يسمى بمترادفاتها لينتقي منها ألصقها بالمعنى المراد والصورة المتخيلة. فبمقدار ما يتم التوافق الدقيق بين المعنى القائم في الذهن واللفظ الدّال عليه والمصوّر له، يتسامى الكلام في درجات البلاغة والبيان.
ولكن هل يتسنى للإنسان أن يحقق هذا التوافق بمعناه الكلي الدقيق؟
لن يتسنى للإنسان أيّا كان، تحقيق هذا الهدف مهما بذل من تحايل أو جهد، وذلك لسببين اثنين:
أولهما: أن المعاني والتصورات أغزر من الألفاظ وقوالب التعبير. ذلك لأن المعاني والأفكار والتصورات إنما تنبعث من داخل النفس الإنسانية، وهي منبع ثرّ لا يكاد ينضب لمختلف المعاني والتصورات والمشاعر.
أما الألفاظ والتعابير فإنما تقبل إلى الإنسان من الخارج، وهي بالإضافة إلى ذلك محصورة ومتناهية. لذا كان من المتفق عليه أن اللغة- مهما كان نوعها- لا تغطي إلا جزءا يسيرا من المعاني والمشاعر.
ألا ترى أن كلمة (الألم) تستعمل للدلالة على أنواع شتى من المشاعر والأحاسيس والمعاني، دون أن تنجدك اللغة بأي دلالات لفظية يمكن أن تستعمل للتفريق بين تلك الأنواع، وإنما أنت منها أمام هذه الكلمة أو ما قد يشبهها: (الألم)؟
وإن أحدنا ليستعمل كلمة (الجمال) عن عالم واسع من المشاعر والصور والمعاني، وهو يعلم أنها صور ومعان متنوعة متخالفة، وإن من الجدير أن يلقى الإنسان لكلّ منها تعبيرا مستقلا.
ولكن أحدنا لا يملك مع ذلك أن يعبّر عن هذه الصور والمعاني المتخالفة بأكثر من كلمة (الجمال) ومشتقاتها.
وكذلك شأن أكثر كلمات اللغة، ما من واحدة منها إلا