عنوان على المجتمع الإسلامي الذي يرقى إلى درجة القدوة والتأسي، وأن الفقهاء إنما قصدوا بالكلمة هذا المعنى، فقرر، بناءاً على هذا الوهم، إن بلادنا اليوم ليست على هذا المستوى ولا قريبة منه، فهي إذن دور كفر وليست دور إسلام!..
ولو علم هذا المتوهم أنها ليست أكثر من شارة أو طابع تميز به الأراضي والبلاد التي دخلت في حوزة المسلمين يوما ما، وملكوا فيها السيادة على أنفسهم ووظائفهم الدينية، لكي ينهضوا بواجب حراستها مع الزمن، ولكي يقوموا بخدمة الإسلام والمسلمين فيها ـ إذن، لما عرج على هذه الكلمة بأي مناسبة، ولما أقحم نفسه وأقحم الناس في تخبط لا حاجة إليه ولا جدوى منه.
ولكن ما بال الذين أتيح لهم أن يعرفوا الحقيقة، لا يعودون إليها؟ وما بالهم يأبون إلا أن يجعلوا من تلك الخطيئة أول مبدأ من مبادئ الإسلام، تحشى به أذهان الناشئة وعقولهم؟
ما أكثر ما سألني صغار، في مناسبات شتى، عن أرض الإسلام وأرض الكفر وهل هم يعيشون الآن على الأولى منهما أم الثانية، وقد أرهقت المسألة اذهانهم وبلبلت قلوبهم! ... وقد كان الأحرى أن يشغلوا أنفسهم بدلاً عن ذلك، بتجويد القرآن، ومعرفة شيء من أحكام الحلال والحرام وكيفية أداء العبادات.
إن الناشئة اليوم، لا يحتاجون، في مجال التوجيه والدعوة إلى التحلي بالإسلام، إلى أكثر من تبصيرهم بحقائق الإسلام الاعتقادية بالمنطق والبرهان، واخذهم بعد ذلك بأسباب السلوك والاستقامة على المنهج الإسلامي السليم، وذلك باتباع السبيل الذي ذكرناه.
وكل ما تحشي به أدمغتهم وراء ذلك، من موجبات الحقد والأضغان، أو من احكام التكفير للناس، أو من هذا الحديث الذي لا طائل فيه عن دار الكفر ودار الاسلام ـ أقول: كل ذلك من اللغو الباطل الذي لا يفيدهم قرباً إلى الله، ولا يغنيهم بثقافة أو علم، فضلاً عن أنه يفقدهم إشراقات قلوبهم، ويملؤها بالكدورة وعكر الجدال والمناقشات التي لا طائل من ورائها، ويقتل أوقاتهم الثمينة دون ربح أو فائدة. ثم ما أيسر ـ إذا كان هذا هو وحده زادهم في طريق تقوى الله والثبات على الحق ـ أن يرتدوا على أعقابهم ويعودوا إلى ماضي إنحرافاتهم وأودية ضياعهم، عند أقل لفتة أو محنة.
والله المستعان أن يبصرنا بالحق ويهدينا إليه، ويرزقنا الإخلاص لوجهه.
***
المشكلة الثالثة: سياسة المسلم مع أهله وأسرته:
وتنشأ هذه المشكلة عندما تتفتح أسباب الهداية في قلب أحد افراد الأسرة ممن لا سلطان له عليهم كالأولاد مثلاً، ويشق سبيله إلى الله عز وجل في طمأنينة وعلى بصيرة وعلم. ولكن سائر أفراد أسرته أو أكثرهم يسيرون على نقيض خطه ومنهجه. فكيف يتعامل معهم؟ وكيف يقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى فيما بينهم؟ ...
وهل له أن يقاطعهم لما يراهم عليه من أسباب الفسق ومظاهر اللهو والعصيان؟
لقد عالجت جانباً من هذه المشكلة في رسالة (الإسلام ومشكلات الشباب) ولكن يبدو أن المشكلة لا تزال قائمة ولا يزال كثير من الشباب المسلمين يسألون عن السبل إلى حلها أو الاستعلاء عليها. وسأحاول علاج هذا الأمر، مرة ثانية، بالقدر الذي تسمح به طبيعة هذه الرسائل من التفصيل والإيضاح.
إن هذا الشاب الذي يعاني من مشكلة التوفيق بين سلوكه الديني وواجباته الإسلامية، ومعاملته الكريمة اللائقة لأعضاء أسرته المنحرفين عن جادة الهداية والحق ـ يجب أن يراعي في اتباع السياسة الشرعية مع أهله، نوع العلاقة القائمة بينه وبينهم.
وهي تنقسم إلى نوعين أثنين:
أحدهما علاقة الأولاد بالآباء والامهات، والثاني علاقة الأنداد، من الأقارب، بعضهم ببعض، كالاخوة والأخوات واولاد العمومة والخؤولة..الخ.
فأما المشكلة التي تعود إلى النوع الأول. فإن على الشاب المسلم أن يسلك إلى حلها الطريق التالي:
أولاً ـ عليه بمجرد أن استشعر نور الهداية الإلهية في قلبه، وآنس من نفسه حب التقيد بالسلوك الإسلامي الذي أمر به الله عز وجل، أن يضاعف من بره بأبويه، وأن يزداد تفانياً في خدمتهما، ورعايتهما، والسهر على تحقيق رضا كل منهما عنه، مهما كانا منحرفين وتائهين، ومهما كانت عقائدهما أو أفكارهما جانحة عن ميزان الحق.
وأنا أقصد بهذا الكلام أن عليه ألا يقف عند حدود الواجبات التي كلفه الله بها في نطاق البر والإحسان الى الابوين. فالوقوف عند تلك الحدود، شأن من لا يعاني من مشكلة، ومن لم يضع نفسه موضع الداعي إلى الله عز وجل. أما والحالة هذه، فلا بد أن يتجاوز هذه الحدود إلى كل ما يتأتى منه من مظاهر الخدمة والبر والرعاية، لانه صاحب مهمة يريد أن يحققها، ولأنه يعاني من مشكلة يريد أن يحلها.
ثانياً ـ ليس له أن يذهب في خدمتهما والبر الشديد بهما، مذهباً يجعله يقيم معهما على معصية، يتغاضى عنها، براً بهما فيما يتصور.
كما أنه ليس له أن يحبس نفسه ـ براً بهما فيما يتصور ـ عن القيام بوظيفة من وظائفه الإسلامية التي كلفه الله بها على سبيل الحتم والوجوب.