وهذا ما يقرره سائر المذاهب الأخرى: الحنابلة، والمالكية، والحنفية، كلهم ذهبوا إلى أن المعول في تسمية الارض بدار الإسلام، أن يمتلك المسلمون فيها السيادة لانفسهم، بحيث يملك المسلم ان يستعلن فيها باحكام الإسلام وشعائره [1] [16] . ثم إن هذه السمة لا تنحسر عنها بعد ذلك لأي عارض من عدوان وضعف ونحوه. اللهم إلا جمهوراً من أتباع الإمام أبي حنيفة، فقد ذهبوا إلى أن دار الإسلام يمكن أن تعود دار حرب بشروط ثلاثة: أحدها إجراء أحكام الكفر والحرب، ونفاذه فيها، الثاني أن تكون متاخمة لدار الكفر والحرب، الثالث ألا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمناً بالأمان الأول على نفسه. فإذا ظهرت هذه الأمور الثلاثة مجتمعة، عادت دار الإسلام بموجب ذلك ـ عند كثير من الحنفية ـ إلى دار حرب [2] [17] .
فإذا تأملت في هذا الذي اتفق عليه أئمة المسلمين من معنى دار الإسلام، أدركت أن تطبيق عموم الأحكام الشرعية واجب يترتب على أولئك الذين تضمهم دار الإسلام، وليس شرطاً لا بد منه لتسمية الأرض دار الإسلام!..
وانظر إلى بعد ما بين التصورين، وإلى أثر الجهل في الخلط الذي من شأنه أن يعكس الأمور وأن يأتي بنقيض الأهداف المطلوبة.
وان أمر الجهل أيضاً يهون، لو كانت المشكلة مشكلة جهل فقط. إذن لأمكن أن تزول المشكلة كلها عن طريق العلم.
ولكن الذي هو أخطر من الجهل، عصبية تتحكم بمجامع النفس، يجعل منها صاحبها غذاءاً لأنانيته وأفكاره الشخصية، فلا يفيد شيء من العلم وبراهينه معها بحال.
لا يزل بعض المسلمين ممن يهمهم أمر المسلمين، يصرون على أن يعرضوا عن كل ما قد ذكره الأئمة واتفقوا عليه، في معنى (دار الإسلام) ويلحون على أن يضعوا للكلمة تعريفاً آخر يتفق مع ميولاتهم وأهوائهم.
وهو أن دار الإسلام هي التي يكون المجتمع فيها مجتمعا إسلامياً، ويكون جميع ما يطبق فيها من الأحكام مأخوذاً من كتاب الله وسنة رسوله. فإن لم يتم فيها ذلك كله، كما هي الحال اليوم في معظم، بل ربما في كل البلاد الإسلامية، فهي دار حرب! ... هي دار حرب، وإن خالف ذلك إجماع ائمة المسلمين كلهم، ولم يجدوا من يؤيدهم إلا الخوارج الذين انفردوا بالذهاب إلى أن البلدة التي تقع فيها كبائر الذنوب تتحول من دار إسلام إلى دار حرب!..
ففي سبيل أي مصلحة من مصالح الإسلام أو الدعوة الإسلامية، يلحون على هذا الشذوذ عن خط السلف الصالح وأئمة المسلمين؟
أيهما ادعى إلى القيام بواجب هذا الدين في أعناقنا؟..
أن نقول: إن هذه البلاد قد اصبحت ديار حرب، فنستريح عندئذ عن كل مسؤولية، ولا نحمل أنفسنا واجب القيام باسترداد أرض، ولا برد عدو، ولا بالنهوض بواجب حسبة أي أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولا بتجميع الناس إلى جمعة أو جماعة، أو مشورة لأمر الإسلام والمسلمين ـ أم أن نقول (كما أجمع السلف) إن هذه البلاد لا تزال ديار إسلام، لأنها قد دخلت ذات يوم تحت سيادة المسلمين وسلطانهم، فلن تعود عنها هذه السمة إلى يوم القيامة. فهي إذن امانة الأجيال في أعناقنا، وإن علينا إذن، أن نسترد ما استبله العدو منها كفلسطين وغيرها، وأن نحرر ما وقع منها تحت سلطان المستعمرين والمتسلطين، وأن نسعى جميعاً سعينا لنمد رواق الحكم الإسلامي عليها ولنقم المجتمع الإسلامي فيها؟
على أن الحكم بتحول هذه الديار الإسلامية إلى ديار كفر أو حرب، يستوجب من القائلين بذلك. أن يرحلوا عنها، ويهاجروا إلى حيث يطيب لهم بذلك أن يرحلوا عنها، ويهاجروا إلى حيث يطيب لهم أن يسموه دار إسلام. فإلى أين يهاجرون؟.. وأين هي تلك الدار التي تسمى اليوم دار إسلام في نظرهم؟ ... وهل يمكن العثور عليها في بعض بقاع أوربا أو بعض جهات أمريكا؟
ثم ما هي مصلحة الدعوة الإسلامية، في أن نشغل اذهان شباب المسلمين بهذه المسألة، وأن نحشو أفكارهم بيقين ان معظم ديار المسلمين اليوم ديار حرب وكفر؟..
ما الذي يتحقق من مكاسب الدعوة الإسلامية والنصر الإسلامي إن هم تبنوا هذا الشذوذ، وقبلوا أن يكونوا ورثة للخوارج في ذلك؟.. وما الذي يفوتهم من تلك المكاسب والثمرات، إن هم استقاموا على اليقين الذي استقام عليه أجيال المسلمين إلى يومنا هذا، وأيقنوا أن كل أرض شرفها الله بالفتح الإسلامي، لن يرتد عنها هذا الشرف إلى يوم القيامة، وأن واجب الأجيال المسلمة حراستها والذود عنها وإشادة المجتمع الإسلامي فوقها؟
خطيئة، ربما وقع فيها أحدهم، إذ ظن أن كلمة (دار الإسلام) [1] 16] أنظر المغني لابن قدامة:9\247و348، وحاشية ابن عابدين3\260ومغني المحتاج:4\239. [2] 17] أنظر الدر المختار بشرح تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين عليه3\260هذا وإذا اردت الوقوف على تفصيل الكلام في هذه المسألة فارجع إلى كتاب آثار الحرب في الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: ص 167فما بعد.