وما أكثر المسلمين الذين يتيهون عن هذه النقطة أيضاً، وهي من أهم المنطلقات التي يجب أن ترتكز عليها أعمال الدعوة إلى الله عز وجل. فتراهم يحملون أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به ولا أذن لهم فيه، جلباً للنتائج وتطلعاً إلى الغايات، وربما قفزوا، في غمار تطلعاتهم هذه، فوق كثير من الوسائل والأسباب التي ألزمهم الله تعالى بها، مما يدخل تحت إمكاناتهم، ويخضع لطاقاتهم. وحصروا نظامهم وشدوا جهودهم نحو النتائج التي هي من خلق الله عز وجل، والتي لم يكلف لله أحداً من عباده بأن يحمل نفسه أي رهق في شأنها.
فيا لله من حال هؤلاء!.. يعرضون عن واجب الالتجاء الشديد إلى الله، والإكثار من ذكره في الخلوات والجلوات، والإكثار من مراقبة النفس والسعي إلى تزكيتها بكل الوسائل، كما يعرضون عن مراقبة بيوتهم والقيام بدقة على إصلاح حال الأهل والاولاد، وإشاعة ذكر الله وعبادته بين أعضاء الأسرة ـ يعرضون عن هذه الواجبات كلها. وهي لباب الدعوة الإسلامية والعمود الفقري فيها، ثم يجلسون يتشاكون (في هم منقطع النظير) حال المسلمين، وغياب المجتمع الإسلامي! ... ويسهرون الليالي لبحث السبل التي تمكنهم من إقامة المجتمع الإسلامي، وتطبيق الحكم الإسلامي!..
كأن المجتمع الإسلامي قبة عظيمة كانت تظلل المسلمين، ثم نحيت عنهم بحبال والقيت في أرض بعيدة، فليس في الأمر إلا يجتمع المسلمون لشدوها فيعيدوها إلى حيث كانت! ...
ولو أنهم تدبروا الأمر من منطلق العبودية لله تعالى في سائر أعمالهم، لأدركوا أن قيام المجتمع على دعائم الإسلام وحكمه ونظامه، ليس إلا أجراً من الله تعالى يخلقه هو لهم، من حيث يحتسبون أولا يحتسبون، في مقابل تطبيقهم الإسلام كله على أنفسهم أولاً، ثم على أهليهم وأولادهم ومن يلوذون بهم ثانياً، ثم على الإكثار من ذكر الله والتبتل إليه والضراعة له ثالثاً.
وهذا هو ما فعله رسول لله صلى الله عليه وسلم ذاته، مع أصحابه.
لم يطرقوا باب المجتمع الإسلامي إلا بهذه الأعمال التي هي حدود وظائفهم وتكليفاتهم. فلما صدقوا الله تعالى في القيام بها، وقادوا بين يدي ذلك قلوباً زكيت بوقود الخشية من الله تعالى، بدل الله بحالهم التي كانوا عليها حالاً أخرى، وأقام لهم مجتماً رضياً سعيداً قوياً قائماً على دعائم الإسلام وحكمه، ثم أقامهم حراساً عليه، بالأعمال والوظائف. ذاتها التي ألزمهم الله تعالى بها.
ولعل مرد هذه الغفلة التي يقع فيها كثير من المسلمين اليوم، أنهم يحسبون طبيعة الدعوة إلى الإسلام كطبيعة الدعوة التي يمارسها أصحاب الأنظمة والمذاهب لا يعتمدون إلا على أنفسهم في تطبيقها وإشاعتها في المجتمع، إذ هي مذاهب وضعية هم الذين ابتدعوها وهم المسؤولون إذن عن كل ما يتعلق بأمرهم ورعايتها وتطبيقها وصبغ المجتمعات بها.
فينجرف كثير من المسلمين الذين يمارسون الدعوة إلى الإسلام، إلى السبيل ذاته، ويسعون بالطرق والأساليب ذاتها، كما لو كان الإسلام مذهبهم الذي ابتدعوه لأنفسهم، في مقابل ما ابتدع الآخرون لأنفسهم من الانظمة والمذاهب الأخرى!.. فتراهم يتنافسون أو يتصارعون معاً على طريق واحدة من الأسلوب والمعالجة وتصور الأمور!.. وينسون أنهم في الحقيقة ليسوا إلا موظفين لله جل جلاله، لقيام بمهام معينة تدخل في حدود طاقاتهم، مقابل ما يحققه هو لهم من المجتمع الإسلامي المنشود.
وأنك لتراهم، في غمار هذا التقليد لهم، والنسيان لهوياتهم ووظائفهم، لا يهتمون من الإسلام ألا بما فيه من الواجهة الاجتماعية التنظيمية. ليقارعوا به الأنظمة الأخرى!.. وعندئذ يسقط الفرق بينهم وبين أولئك الآخرين، في ميزان الله تعالى وحكمه. إذ لا قيمة لشيء من الأحكام والأنظمة الإسلامية إلا من حيث هي دين يخضع من خلاله الإنسان لسلطان الله وألوهيته. فإذا أهمل الأساس الديني منها، فما أكثر ما تتفق الفروع السطحية مع كثير من المذاهب والآراء.
وهذا هو السر في أن هؤلاء الناس، لا يفهمون من كلمة (الحكم بما أنزل الله) في نطاق الدعوة الإسلامية، إلا ما يبرز منه في واجهة المجتمع ويتكون منه النظام العام. فاما الحكم بما أنزل الله في معاملة الإنسان مع نفسه ومع أهل بيته وأسرته وأولاده وفي علاقته وتعامله مع أصدقائه وسائر الناس، فما أكثر ما يغفلون عنه بل ربما أعرضوا عنه إعراضاً تاماً!..
الآثار التي تتحقق بالتزام هذه المنطلقات:
إذا التزم المسلم بهذه المنطلقات الثلاثة للسير في طريق الدعوة الإسلامية، فعلم أن الدعوة إلى الله عبادة، وكانت هي الحافز له إليها، وعلم أنه مكلف بتعريف الناس بالإسلام وحقيقته ودلائله، من منطلق الرحمة بهم والشفقة عليهم كي لا يقعوا غداً في نيران الندامة، إذا كشف أمامهم الغطاء وظهرت الحقائق..