وأنه ليس مكلفاً إلا بالاسباب الداخلة في طوقه، أما النتائج فبخلق الله وتقديره ـ أقول: إذا التزم المسلم بهذه المنطلقات، أصغت له الآذان، واستجابت له القلوب، وكان عمله كمن يحرث في تربة صالحة لينة.
ذلك لان الذي يلتزم بهذه المنطلقات، لن يغضب لنفسه ولن ينتصر لشخصه إذا ناله ضر ممن يعرفه بالإسلام ويدعوه إليه، بل ستحمله الرحمة به والشفقة عليه على الصفع عنه وخفض الجانب له. ولا بد أن يستشم الطرف الآخر وجود هذه المشاعر عنده، ويدرك إخلاصه في نصحه، وأنه لا ينطلق فيما يدعوه إليه من رغبة في بسط أنانيته وتغذية كبريائه. فيثير ذلك في نفسه حوافز الإقبال إليه والتأمل في نصائحه وأقواله، ولا بد عندئذ أن تستيقظ الفطرة الإسلامية بين جوانحه، فيقر بالحق ويذعن له. وما يمنعه بعد ذلك من تقويم سلوكه وإصلاح حاله، إلا ما قد يكون لشهوات النفس من سلطان عليه، فيتعثر في طريق التطبيق والسلوك، حسب قوة شخصيته أمام سلطان تلك الشهوات. ولهذه المرحلة علاج آخر، ليس هذا مجال البحث فيه.
وبالمقابل، فإن أكثر ما يصد المنحرفين عن سماع كلمة الحق، ما قد يشعرون به في تضاعيفها من التعالي والأنانية. وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيثير هذا الشعور لديهم (بموجب رد الفعل) تعالياً أو شد وأنانية أقوى، واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات.
وهكذا توقظ العصبية، عصبية مثلها، فتتكاثف من ذلك الحجب بين الطرفين، ويمضي الداعي إلى الإسلام، وهو لم يأت من جهده بطائل، ولم يحمل قلبه إلا مزيداً من أسباب الضغينة والحقد، التي قد يخيل إليه، لفرط جهله، أنها ليست إلا مشاعر الغضب لله عز وجل.
ولكن الذي التزم بالمنطلقات التي ذكرناها واصطبغت نفسه بها، لن يجد التعالي إلى نفسه من سبيل، فمن أين له ان يعلم الخاتمة التي سيختم الله له بها، ومن أين له أن يعلم بأنه أفضل حالاً في ميزان الله عز وجل من هذا الذي يقبل إليه بالنصيحة والإرشاد؟ كم من مستقيم على الطاعات قائم بالدعوة إلى الحق، وهو مزهو ومعجب بنفسه، يتعالى على الناس والأقران بذلك، فلا تفيده طاعاته وسائر أعماله إلا بعداً عن الله عز وجل.
وكم من عاص مستهتر بأوامر الله تعالى، وهو يعاني من ذل نفسه ويشعر بسوء حاله، ولا يضع نفسه إلا أراذل الناس، ويفيض قلبه حسرة مما هو فيه، فيجعل له الله تعالى من انكسار نفسه وشعوره بضآلة ذاته، كفارة لمعاصيه، ثم ما هو إلا أن يوفقه الله لتوبة صادقة وعزم على السير إلى مرضاة الله بقوة وثبات!..وقديماً قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى في حكمه:
(رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً) .
فشأن المسلم المخلص في دعوته لوجه الله عز وجل، ان يدعوا الشاردين والمنحرفين إلى الله عز وجل، وهو يفرض أنهم ربما كانوا عند الله أحسن حالاً منه، وأفضل مآلاً. فإنه لا يدري العاقبة أبداً. ولكنها مهمة كلفه الله تعالى بها: أن يذكر الناس بالله ويدعوهم إليه، والله تعالى أعلم بحال عباده وما أضمرته نياتهم، وما سينتهي إليه حالهم، وما دام الأمر هكذا، فليس لإنسان أن يزكي نفسه وأن يتسامى بها على الآخرين.
وكل من فعل ذلك فقد أثبت بالبرهان الذي لامرد له، أنه شر الناس جميعاً.
ولتعلم أن رجال الدعوة في الإسلام منذ عصر الصحابة فما بعده، لم يفتحوا أفئدة الناس بالهداية والإرشاد، بكثير بلاغة ولا بفنون فصاحة أو بيان، ولكنهم استحوذوا على تلك الأفئدة ببركة التزامهم بهذه المنطلقات الثلاثة واصطباغ نفوسهم بها.
بل، أستغفر الله، إنهم لم يستحوذوا على شيء، ولكن الله تعالى ـ وقد علم منهم صدق العبودية والتجرد الكامل من الغرض والهوى ـ جعل لكلماتهم آذاناً صاغية وقلوباً واعية. وجل من قضت حكمته أن يسخر عباده بعضهم لبعض في كلا أمري الدنيا والآخرة، وأن يجعل بعضهم مناط مثوبة لبعض.