بهذه الصورة، ولما بقيت لها هذه الروعة الدائمة وذلك البهاء الموصول، ولقال القائل: وما نفع كنز عظيم لا ينال الناس منه خيرًا؟ وما قيمة محيط واسع لا يجد الراغبون إليه سبيلا؟ ... ولكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الذي هتف: "ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط"، ولذلك كانت عظمته لغيره قبل أن تكون لنفسه، وكأنما خلق الله رسوله على عينه، وجمع له أطراف المحامد والمكارم؛ ليظهر فيه سر النبوة وسمو الرسالة، ثم أتاح لصفيه [وخليله] [1] بعد ذلك أن يفيض من هذا النبع الذي لا يغيض، على من حوله ومن يأخذون عنه، والرسول حينئذ لا يستطيع أن يخلق من هؤلاء الأتباع صورًا مطابقة كل المطابقة لشخصه وذاته، وإلا لصار هؤلاء الأتباع رسلا مثله؛ فليس له إلا أن يهيئ لكل واحد منهم ما يناسبه ويلائمه، فيغترف من حوض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما استطاع، ومن هنا رأينا العظمة المتجمعة في شخص محمد -صلوات الله عليه- تتفرق في أشخاص أصحابه، وفي خلفائه الراشدين- رضوان الله عليهم أجمعين- بوجه خاص؛ فهذا أبو بكر مثلا يرث عن رسوله نور اليقين والإيمان، ويقوي عنده هذا النور حتى يسطع فيبهر.
وهذا عمر يرث عن رسوله حسن التدبير وعمق التفكير وصواب النظر وأصالة الرأي، حتى ليقول فيه المصطفى: "إن الله قد جعل الحق على لسان عمر وقلبه" [2]، وحتى يستطيع عمر إبان خلافته أن يسوس دولة ما ساسها قيصر من قبل أو شاه، وأن يجتهد في أمور الدين والدنيا، فيهديه ربه إلى فض مشكلات وحل معضلات ما كان يقتدر عليها لولا أنه تخرج من مدرسة النبوة التي تفيض بالهدى والرشاد. [1] وخليله أولى ما بين القوسين وضعناه فهو أولى. [2] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ9 ص66.