والدليل على اشتراكهم في هذا الهدف ظاهر من تاريخ المستعمرين , ودسائس المستشرقين وأقوال المبشرين وأعمالهم.
لقد دخل المستعمرون معظم البلاد العربية الإسلامية , فكان أول عمل باشروه تجزئة الأمة العربية ذات الأكثرية الإسلامية , إلى دويلات صغيرة , وأقاموا بينها الحدود والحواجز المصطنعة , وحاولوا أن يغرسوا بينها تبايناً في المصالح الاقتصادية والسياسية والثقافية , ثم تبايناً آخر في القوميات والعصبيات الإقليمية , مضافاً إلى ذلك إيجاد التنافر بين الكتل الطائفية , وأمعنوا في ذلك إمعاناً بالغاً , إذ كانوا يأتون إلى الكتل الطائفية القليلة العدد , التي بدأت تنسى عزلتها الطائفية , وتنصهر في الجماعة الواحدة الكبرى , فيشجعونها على أن تعود إلى أصولها , وتوجد لنفسها تكتلاً مضاداً حاقداً على الأكثرية المنتشرة في البلاد , وذلك في ظل التسامح العام الذي تشعر به الأكثرية المسلمة , على أسس وطنية بحتة أخذت تنادي بها هيئاتها السياسية وغيرها , وهي غافلة عن المكيدة المدبرة.
وإمعاناً في التجزئة على أساس التفرقة الطائفية نشط المستعمرون في مد عناصر الطوائف القليلة بالمساعدات المختلفة , والتسهيلات الاقتصادية , والإغضاء عن الجرائم والمخالفات , ونفخ روح العزلة والحقد والكراهية في نفوس أفرادها وقادتها , ضد الأكثرية , وضد الطوائف الأخرى , وإشعارها بضرورة انفصالها بحكم ذاتي خاص بطوائفها.
وأقاموا بينهم وبين هذه الطوائف علاقات تتسم بطابع الصداقة والمودة التي تستتبع تبادل زيارات عائلية , وجلسات فكاهة وسمر وأكل وشرب , ورحلات متنوعة , وهكذا إلى آخر ما يدخل في هذا الجدول الاجتماعي , وعقدوا معهم صلات مناظرة للصلات التي عقدوها مع مجموعة من كبار الأسر السياسية والاقتصادية المنتمية إلى الطائفة التي تشكل في البلاد الأكثرية العددية , ولكن دسائسهم في كل زمرة منها تختلف عن دسائسهم في الأخرى. وذلك ليتم لهم بناء الجدار الغليظ بينهما , وليوسعوا الهوة الفاصلة بين الطوائف , ويزرعوها بالألغام الكثيرة , من الكراهية , وتباين المصالح , والأحقاد التاريخية الموروثة , والعصبيات المختلفة ذات الدوائر الضيقة.