ومع ذلك, فلنضع أنفسنا في الظروف المناسبة لهذا التدرج. هل يجب أن نسلم بأن كل سلوك يستمسك بالوسط هو سلوك فاضل، وبالعكس، كل ما يتجاوز هذا المقياس يرتد بمجرد هذا التجاوز إلى الأعمال الموصومة بالرذيلة؟
إن الحب والبغض، والإثبات والنفي، والعمل الذي ينفع ويبني، والعمل الذي يضر ويهدم -كل هذه أنواع من التطرف، فهل لنا الحق في أن نقرر أن الفضيلة تتمثل هنا بخاصة في "اللامبالاة"، و"الشك"، و"التأمل البليد"؟
ومن ناحية أخرى، عندما تصرح لنا الفلسفة الأثينية بأن الحد الوسط في نظرها هو نقطة التعادل والتساوي، أفلا يخشى ألا تكون الفكرة التي كونتها لنفسها عن الفضيلة طبقًا لهذا المقياس -شيئًا سوى "العدالة الدقيقة"، التي إن لم تتجسد في شريعة القصاص، إذ ينكرها أرسطو فعلى الأقل في شريعة التناسب التي أحلها محلها؟
فماذا بقي منذئذ للإحسان، والإخلاص، والتضحية، تلك الفضائل التي لا تعد ولا تحسب؟
وهكذا يبدو لنا التعريف الأرسطي مخطئًا، تارة "بالزيادة"، حين يضم حالات لا تناسب الشيء المعرف، وتارة "بالنقص" حين لا يشتمل على كل المعرف. فهو كما قيل عند الفلاسفة المدرسيين: ليس جامعًا ولا مانعًا، وبحيث يمكن القول بأن الحكمة القرآنية وهي تتجنب الصيغة الجامعة في هذا الموضوع -قد عرفت كيف تتوقف حيث ينبغي لها أن تتوقف.
فلنتقدم أيضًا خطوة، ولننظر إلى الحالة التي تتفق فيها النظريتان على إيصائنا بالاعتدال، ففيم يتمثل هذا الاعتدال؟
هنالك أيضًا تحتوي إجابة كل من النظريتين على اختلافات طفيفة. إذ