وهناك أحاديث أخرى تعبر تعبيرًا أدق عن هذا التدرج، فقد جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره" [1].
وخذ كذلك نصًّا آخر متدرجًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: مر رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعب فيه عيينه من ماء عذبة، فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" [2].
ولا ريب أن هناك حالات يفرض فيها على العاقل الابتعاد عن الناس, سواء أكان ذلك لأسباب عامة، أم كان لدواع شخصية، وذلك ما يحدث -مثلًا- في فترات الاضطراب الاجتماعي. والواقع أنه عندما يسيطر الغموض والبلبلة سيطرة شاملة على العقول، فإن الصلة بالبيئة تدفع كل فرد، إلى أن ينتحي جانبًا، دون أن يملك لذلك دفعًا، وهذا الاتجاه المحتوم إلى تمزيق الأمة ينتهي غالبًا إلى الحرب الأهلية وهو ما أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتجنب مغامراته، وأن نلوذ منه بالفرار في أي مكان، فقال فيما روي عن أبي هريرة: "ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذًا فليعذ به" [3]. [1] البخاري, كتاب الرقاق, باب 33. [2] الترمذي, كتاب فضائل الجهاد, باب 17. [3] صحيح البخاري, كتاب الفتن, باب 8.