قادر بهذه الطريقة أن يحل بعض الصعوبات الأخلاقية -لا يفعل في الواقع سوى أن يهرب من هذه الصعوبات. فهو لكي يجعل من نفسه إنسانًا طاهرًا عفيفًا يخلق لنفسه عالمًا مصطنعًا، يستطيع أن يهرب فيه من الخطيئة، لا بوساطة قواه الذاتية، بل بقوة الأشياء.
وإذن، فما كان له أن يحوز ما حاز غيره من بطولة واستحقاق، غيره الذي يواجه الحياة بشجاعة، على ما هي عليه، وبكل ما تتضمن من مسئولية، ومغامرة، وتضحية، والذي يبذل كل طاقته من أجل أن يتغلب على العقبات.
وهكذا نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استلهم القرآن في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [1], وقوله: {ولْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [2] -فإذا به يستهل نداءه للشباب بأن يوصيهم بالزواج، بشرط واحد، هو أن يكونوا قادرين على النهوض بواجباته الزوجية، فإذا عدمت هذه المسئولية فإنه يوصي الشباب باللجوء إلى الصوم، كوسيلة للدفاع ضد الدوافع الغرزية[2]: "يا معشر الشباب؛ من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" [3]. [1] النور: 32. [2] النور: 33. [3] البخاري, كتاب الصوم, باب 10.
نعتقد أن في هذا الحديث أصل منهج التقشف، وشرطه المسوغ له، وهو المنهج الذي امتدحه كثير من الأخلاقيين المسلمين، وغيرهم، فهذا الحرمان والقهر الذي يفرضه المتحذلقون في الأخلاق -غالبًا على أتباعهم- يجب ألا نرى فيه في الواقع هدفًا، بل هو وسيلة لجهاد بعض الفطر المتمردة، التي تحكمها الجوارح، حكمًا متمكنًا. ولا شك أن مراحل هذا الصراع قد تستغرق زمنًا يطول أو يقصر، تبعًا للحالة، ولكن ذلك دائمًا إجراء مؤقت، وليس هو الحالة العادية والدائمة، التي يوصى بها الرجال عمومًا.