responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 191
وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَمَالِ قُدَرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، وَسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ. فَإِنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْمُتَضَادَّاتِ. وَقَابَلَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ. وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَجَعَلَهَا مَحَالَّ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَخُلُوُّ الْوُجُودِ عَنْ بَعْضِهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَعْطِيلٌ لِحِكْمَتِهِ، وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ، مِثْلَ الْقَهَّارِ، وَالْمُنْتَقِمِ، وَالْعَدْلِ، وَالضَّارِّ، وَشَدِيدِ الْعِقَابِ، وَسَرِيعِ الْحِسَابِ، وَذِي الْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالْخَافِضِ، وَالْمُذِلِّ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلِّقِهَا. وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَكِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَسِتْرِهِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ، وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ. فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ. فَيَغْفِرُ لَهُمْ» .
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا. فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَلَا يُنْزِلُهُ غَيْرَ مَنْزِلِهِ، الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ وَخِبْرَتُهُ. فَلَا يَضَعُ الْحِرْمَانَ وَالْمَنْعَ مَوْضِعَ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ. وَلَا الْفَضْلَ وَالْعَطَاءَ مَوْضِعَ الْحِرْمَانِ وَالْمَنْعِ. وَلَا الثَّوَابَ مَوْضِعَ الْعِقَابِ، وَلَا الْعِقَابَ مَوْضِعَ الثَّوَابِ، وَلَا الْخَفْضَ مَوْضِعَ الرَّفْعِ، وَلَا الرَّفْعَ مَوْضِعَ الْخَفْضِ، وَلَا الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَلَا الذُّلَّ مَكَانَ الْعِزِّ، وَلَا يَأْمُرُ بِمَا يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَا يَنْهَى عَمَّا يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ.
فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا. وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ وَوُصُولِهَا. وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَلَا يَسْتَأْهِلُهُ. وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَمْنَعَهَا أَهْلَهَا. وَأَنْ يَضَعَهَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا.
فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ الْبَغِيضَةِ لَهُ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ. وَلَمْ تَظْهَرْ لِخَلْقِهِ. وَلَفَاتَتِ الْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا. وَفَوَاتُهَا شَرٌّ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ.
فَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ - لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ - لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ وَالضَّرَرِ. فَلَوْ قُدِّرَ تَعْطِيلُهَا - لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهَا ذَلِكَ الشَّرُّ الْجُزْئِيُّ - لَتَعَطَّلَ مِنَ الْخَيْرِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الشَّرِّ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.

نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 191
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست