responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين نویسنده : ابن القيم    جلد : 1  صفحه : 172
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُوَ فِدَاءٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَالْفِدَاءَ فِي وَسَطِهَا، وَذَكَرَ الطَّلَاقَ بَعْدُ؛ فَالْفِدَاءُ لَيْسَ هُوَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ الْفِدَاءَ فِدَاءً لِمَعْنَاهُ لَا لِلَفْظِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغْيِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ الْأَحْكَامَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِأَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَا يَقْصُرَ بِهَا، وَيُعْطِيَ اللَّفْظَ حَقَّهُ وَالْمَعْنَى حَقَّهُ؛ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَهْلَ الِاسْتِنْبَاطِ فِي كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ إنَّمَا هُوَ اسْتِنْبَاطُ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَنِسْبَةُ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، فَيُعْتَبَرُ مَا يَصِحُّ مِنْهَا بِصِحَّةِ مِثْلِهِ وَمُشْبِهِهِ وَنَظِيرِهِ، وَيُلْغَى مَا لَا يَصِحُّ، هَذَا الَّذِي يَعْقِلُهُ النَّاسُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الِاسْتِنْبَاطُ كَالِاسْتِخْرَاجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ طَرِيقَةَ الِاسْتِنْبَاطِ؛ إذْ مَوْضُوعَاتُ الْأَلْفَاظِ لَا تُنَالُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِنَّمَا تُنَالُ بِهِ الْعِلَلُ وَالْمَعَانِي وَالْأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ وَمَقَاصِدُ الْمُتَكَلِّمِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - ذَمَّ مَنْ سَمِعَ ظَاهِرًا مُجَرَّدًا فَأَذَاعَهُ وَأَفْشَاهُ، وَحَمِدَ مَنْ اسْتَنْبَطَ مِنْ أَوَّلِ الْعِلْمِ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَاهُ.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ اسْتِخْرَاجُ الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى عَلَى غَيْرِ مُسْتَنْبِطِهِ، وَمِنْهُ اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ مِنْ أَرْضِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لَا، وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفَهْمَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَعُمُومِهِ أَوْ خُصُوصِهِ، فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ سَائِرِ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هَذَا فَهْمُ لَوَازِمِ الْمَعْنَى وَنَظَائِرِهِ وَمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا غَيْرُ الْمُرَادِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُرَادِ.
وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْتَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ، وَجَدْتَ الْآيَةَ مِنْ أَظْهَرْ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ رُوحٌ مُطَهَّرٌ، فَمَا لِلْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ وَوَجَدْتَ الْآيَةَ أُخْتَ قَوْلِهِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211] ، وَوَجَدْتَهَا دَالَّةً بِأَحْسَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ، وَوَجَدْتَهَا دَالَّةً أَيْضًا بِأَلْطَفِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ وَطَعْمَهُ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ، كَمَا فَهِمَهُ

نام کتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين نویسنده : ابن القيم    جلد : 1  صفحه : 172
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست