…إن مما لا شك فيه أن الأحاديث الثلاثة الأولى وهي صالحة للاحتجاج، تصلح دليلاً على أن الشرع الحنيف قد حظر على الصائم أن يَحتجم، وجعل الاحتجام من مبطلات الصوم، وأن أي تأويل لهذه النصوص البالغة الوضوح هو ردٌّ لها وإِبطالٌ لها من مثل قولهم: إن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان في صومهما، فقيل ما قيل. حتى قال الشافعي: وعلى هذا التأويل يكون المراد بإفطارهما أنه ذهب أجرُهما. ومن مثل ما ذكره الخطابي أن معناه أنهما تعرَّضا للفِطر، أما المحجوم فلضعفه بخروج الدم فربما لحقته مشقة فأفطر، وأما الحاجم فقد يصل جوفَه شيءٌ من الدم إذا ضمَّ شفتيه. إلى غير ذلك من تأويلاتٍ أقل ما يقال فيها إنها باطلة. أما القول الأول فالردُّ عليه من وجوه:
أولاً: إن الغيبة لا تفطِّر الصائم على الرأي الأصح حتى يقال إنهما كانا يغتابان.
وثانياً: إن أحاديث (أفطر الحاجم والمحجوم) قد وردت في أحوالٍ عدة، فلا يُتصوَّر فيها كلِّها وجودُ الغيبة، ثم إِنَّ الأحاديث هذه قد خلت من ذِكر الغيبة، فمن أين أتوَا بها؟ .
وثالثاً: إن التأويل لا يصح تأويله لأن التأويل في ذاته ضعيف نوعاً، فإن هو أُوِّلَ صار ضعيفاً بلا شك، فتأويل الأحاديث بالقول إِنهما أفطرا لأنهما كانا يغتابان لا يصح أن يجري تأويله بالقول إنه يُؤوَّل بأنه قد ذهب أجرُهما.
…وأما القول الثاني الذي ذكره الخطَّابي وهو أنهما تعرضا للفطر، ثم راح يُفسِّر هذا القول باحتمال لحوق مشقة به وضعف، أو باحتمال وصول شيء من الدم إلى جوف الحاجم، فالردُّ عليه هو أن الفقه لا يُبنى على الاحتمالات، وخاصة إن كانت الاحتمالات غير محتمَلَة!! أما أنها غير محتمَلة هنا، فهو أن الإقرار بهذا الاحتمال يجعلنا نقول إن المضمضة تفطِّر الصائم، لاحتمال أن يصل شيء من الماء إلى جوف الصائم عند الوضوء، فنحظر المضمضة على الصائم؟!