الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
مَحَالُّ الِاجْتِهَادِ الْمُعْتَبَرِ هِيَ مَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَضَحَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصْدُ الشَّارِعِ فِي الْإِثْبَاتِ فِي أَحَدِهِمَا وَالنَّفْيِ فِي الْآخَرِ؛ فَلَمْ تَنْصَرِفِ الْبَتَّةَ إِلَى طَرَفِ النَّفْيِ وَلَا إِلَى طَرَفِ الْإِثْبَاتِ.
وَبَيَانُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا تَخْلُو أَفْعَالُ[1] الْمُكَلَّفِ أَوْ تُرُوكُهُ؛ إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا خِطَابٌ[2] مِنَ الشَّارِعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِيهَا خِطَابٌ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ يَكُونُ فَرْضًا غَيْرَ مَوْجُودٍ، وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ فى الحقيقة راجعة[3]. [1] سواء أكانت أفعال القلوب أم الجوارح ليشمل المعتقدات؛ فصح ذكره بعد للمشابهات الحقيقية التي لم يظهر للشارع فيها قصد ألبتة؛ فإنها إنما تظهر في المعتقدات. "د". [2] بأحد الأدلة الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو غيرها من الأدلة المختلف فيها كلاستدلال؛ فليس بلازم أن يكون الخطاب في نص، بدليل أنه جعل ما لم يرد فيه خطاب، إما فرضًا صرفًا لا وجود له، وإما أن يكون من مرتبة العفو، وهذا وذاك لا يكون إلا عند عدم الأدلة رأسًا منصوصة وغير منصوصة؛ فلا ينافي ما يجيء في المسألة الخامسة من التفصيل بين الاستنباط من النصوص والاستتنباط من غيرها؛ فالتردد بين الطرفين عام في مسائل الاجتهاد. "د". [3] قال في "التحرير" و"شرحه": "نفي كل مدرك خاص للدليل الخاص حكمه الإباحة الأصلية؛ فلا تخلو وقائع عن حكم الشرع". وقال في "المنهاج" [ص246 - مع تخريجه الابتهاج] : "من الأدلة المقبولة فقد الدليل بعد التفحص البليغ، فيغلب ظن عدمه، وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل"، وقال العضد شارح ابن الحاجب: "ولا نسلم بطلان خلو وقائع من حكم وإن التزم فالأقيسة والعمومات تأخذه؛ أي: فتكفي في جميع ما يحتاج فيه إلى المصالح المرسلة، وإن سلم أنها لا تكفي، فالحكم عند انتفاء المدرك هو نفي الوجوب والحرمة، وهو معنى التخيير، وتقدم للمؤلف إدراجه في مرتبة العفو التي أشير إليها في حديث سلمان الفارسي في الترمذي وابن ماجه: "وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه" [مضى تخريجه "1/ 255"] ، وبالجملة؛ فكل ما لم يرد فيه دليل شرعي يخصه أو يخص نوعه فيه الخلاف بالإباحة أو المنع أو الوقف، ولكل دليله وحجته، تراجع مسألة العفو السابقة في كتاب الأحكام وينزل على الخلاف ترديد المؤلف هنا. "د".