والثانية ترفع ذلك التحتيم من غير تصريح بالواقع، هذا ما يمكن تطبيقه على الأولى، وهو إعلام النص اللاحق بإلغاء النص السابق، وهذه النصوص الثلاثة كلها لا تعين إفادة النسخ بالمعنى المراد منه، إذ أنه يجوز في الآيات الثلاث فعل الحالتين المثبتتين فيها، ولو كان المراد نسخ الأولى بالثانية لما جاز فعل الأولى، بل تحتم فعل الثانية فقط وليس كذلك.
أما الطريق الثاني: وهو الالتجاء إلى نصين متناقضين لا مجال لتأويلهما أو أحدهما، فمن العسر جدا، بل من المحال أن تجد شيئا منه في كتاب الله، وهو المبرأ من كل عيب، ولله در أحمد محرم إذ يقول:
دستور حق في يمين محمد ... يحمي الضعيف وبنصف المظلوما
لولا بلاغته وروعة نظمه ... جهل الرجال اللؤلؤ المنظوما
كنز البيان فمن تطلب للفتى ... كنزا سواء قضى الحياة عديما
فضّت علوم الدهر منه جانبا ... وغدا نقضي الجانب المختوما
متجدد في كل عصر يبتغى ... مما تجيء جديدة وفهوما
وناهيك في هذا قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية 88 من سورة الإسراء الآتية:
مطلب القائلين بعد النسخ:
هذا وقد منع أبو مسلم الأصفهاني المفسر الكبير وجود النسخ في القرآن العظيم، وقد قال الإمام الرازي في تفسيره المشار إليه، وكذلك الشيخ محي الدين العربي في تفسيره، ومن عرف مرامي التشريع الإسلامي، ووقف على لباب التنزيل، وعرف حكمة التدريج في التشريع الذي مر ذكره في المطلب السابع، وأمعن النظر في قوله تعالى: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) الآية 1 من سورة هود، أيقن أن لا نسخ في كلام الله بالمعنى القائلين به، من أبطال المعنى الأول بالكلية، وهذا من جملة ما عناه سيدنا علي كرم الله وجهه، بإرادته ترتيب سوره وآياته على حسب