نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3226
وينتهي هذا المقطع، الذي ورد فيه ذكر الاستهزاء بآيات الله، والصد عنها والاستكبار، بكلمة عن حقيقة هذه الآيات وجزاء من يكفر بهذه الحقيقة في إجمال:
«هذا هُدىً. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» ..
إن حقيقة هذا القرآن أنه هدى. هدى خالص مصفى. هدى ممحض لا يشوبه ضلال. فالذي يكفر بعد ذلك بالآيات، وهذه حقيقتها، يستحق ألم العذاب. الذي يمثله توكيد معنى الشدة والإيلام. فالرجز هو العذاب الشديد. والعذاب الذي يهددون به هو عذاب من رجز أليم.. تكرار بعد تكرار. وتوكيد بعد توكيد.
يليق بمن يكفر بالهدى الخالص الممحض الصريح.
وبعد التهديد المخيف، والوعيد الرعيب، يعود فيلمس قلوبهم لمسا رفيقا، بالتذكير بأنعم الله التي سخرها لهم في هذا الكون العريض:
«اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
إن هذا المخلوق الصغير.. الإنسان.. يحظى من رعاية الله- سبحانه- بالقسط الوافر، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة، وينتفع بها على شتى الوجوه. وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها، والذي تسير وفقه ولا تعصاه! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة بل ما استطاع أن يعيش معها وهو هذا القزم الصغير، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام.
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها! «لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ» .. فهو- سبحانه- الذي خلق البحر بهذه الخصائص، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص، وجعل خصائص الضغط الجوي، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض.. وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر. وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» كالصيد للطعام وللزينة، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار.
سخر الله للإنسان البحر والفلك، ليبتغي من فضل الله وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام، وعلى التسخير والاهتداء: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق، وإلى الارتباط بذلك الأفق، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه.. إلى الله.
ومن تخصيص البحر بالذكر إلى التعميم والشمول. فلقد سخر الله لهذا الإنسان ما في السماوات وما في الأرض، من قوى وطاقات ونعم وخيرات- مما يصلح له ويدخل في دائرة خلافته-:
«وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» ..
فكل شيء في هذا الوجود منه وإليه وهو منشئه ومدبره وهو مسخره أو مسلطه. وهذا المخلوق الصغير..
الإنسان.. مزود من الله بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية. يسخر به قوى في هذا الكون وطاقات
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3226