نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3208
حقيقية أو آية من آيات الله في تركيب الإنسان، وإقداره على النطق، وترتيب مخارج حروفه، والرمز بين اسم الحرف وصوته، ومقدرة الإنسان على تحصيل المعرفة من ورائه.. وكلها حقائق عظيمة تكبر في القلب كلما تدبرها مجردا من وقع الألفة والعادة الذي يذهب بكل جديد! فأما المقسم عليه فهو تنزيل هذا الكتاب في ليلة مباركة:
«إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي- والله أعلم- الليلة التي بدأ فيها نزوله وهي إحدى ليالي رمضان، الذي قيل فيه: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» .. والقرآن لم ينزل كله في تلك الليلة كما أنه لم ينزل كله في رمضان ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض وكانت هذه الليلة موعد هذا الاتصال المبارك. وهذا يكفي في تفسير إنزاله في الليلة المباركة.
وإنها لمباركة حقا تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة، تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة وتقيم على أساسها عالما إنسانيا مستقرا على قواعد الفطرة واستجاباتها، متناسقا مع الكون الذي يعيش فيه، طاهرا نظيفا كريما بلا تعمل ولا تكلف يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولا بالسماء في كل حين.
ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء، موصولين مباشرة بالله يطلعهم أولا بأول على ما في نفوسهم ويشعرهم أولا بأول بأن عينه عليهم، ويحسبون هم حساب هذه الرقابة، وحساب هذه الرعاية، في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم ويلجأون إليه أول ما يلجأون، واثقين أنه قريب مجيب.
ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتابا مفتوحا موصولا بالقلب البشري، يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر ويحول مشاعره بصورة تحسب أحيانا في الأساطير! وبقي هذا القرآن منهجا واضحا كاملا صالحا لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان. حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع، بكل خصائصه دون تحريف. وهذه سمة المنهج الإلهي وحده. وهي سمة كل ما يخرج من يد القدرة الإلهية.
إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم، وما يصلح لفترة من الزمان، ولظرف خاص من الحياة. فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال، والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب.
أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة.. أولا للإنذار والتحذير: «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» . فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه.
وهذه الليلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلا وفارقا بهذا التنزيل:
«فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» ..
وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيها كل شأن، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق، ووضعت
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3208