نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3158
ويندّي القلب والمشاعر، كمشهد الغيث بعد الجفاف. وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث، وتنتشي بالخضرة بعد الموات.
«وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله. وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة. فهي قاطعة في دلالتها، تخاطب الفطرة بلغتها، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد. إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان، ولا غيره من خلق الله. ولا مفر من الاعتراف بمنشئ مدبر. فإن ضخامتها الهائلة، وتناسقها الدقيق، ونظامها الدائب، ووحدة نواميسها الثابتة.. كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلا إلا على أساس أن هناك إلها أنشأها ويدبرها. أما الفطرة فهي تتلقى منطق هذا الكون تلقيا مباشرا، وتدركه وتطمئن إليه، قبل أن تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها! وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها: «وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ» .. والحياة في هذه الأرض وحدها- ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها- آية أخرى. وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد، فضلا على التطلع إلى إنشائه. سر غامض لا يدري أحد من أين جاء، ولا كيف جاء، ولا كيف يتلبس بالأحياء! وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء- بعد وجود الحياة- وتنوعها ووظائفها وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات. فأما ما وراء الستر فبقي سرا خافيا لا تمتد إليه عين، ولا يصل إليه إدراك..
إنه من أمر الله. الذي لا يدركه سواه.
هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان. فوق سطح الأرض وفي ثناياها. وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء- ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء- هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور. هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب! وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم، أو سربا من النحل يطير من خلية لهم! وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله. وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله. وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله. وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله. وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان، وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان.. ومعها خلائق أربى عددا وأخفى مكانا في السماوات من خلق الله.. كلها.. كلها.. يجمعها الله حين يشاء..
وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر. والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3158