نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3147
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ»
.. فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم. فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه؟ وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق. الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير: «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. والذي يعلم كل شيء هو الذي يحكم وحكمه العدل، وحكمه الفصل..
وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة لتوقع على القلب البشري دقة بعد دقة، حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق.
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى:
«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ- بَغْياً بَيْنَهُمْ- وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» ..
لقد جاء في مطلع السورة: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر، ووحدة المنهج، ووحدة الاتجاه. فالآن يفصل هذه الإشارة ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو- في عمومه- ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى. وهو أن يقيموا دين الله الواحد، ولا يتفرقوا فيه. ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم، دون التفات إلى أهواء المختلفين. ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم، ودحض حجة الذين يحاجون في الله، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد.
ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ:
«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» ..
وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة. حقيقة الأصل الواحد، والنشأة الضاربة في أصول الزمان. ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن. وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد. فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام.. نوح. إبراهيم. موسى. عيسى، محمد- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير. إنه سيستروح السير في الطريق، مهما يجد فيه من شوك ونصب، وحرمان من أعراض كثيرة. وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله. الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ.
ثم إنه السّلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد، السائرين على شرعه الثابت وانتفاء الخلاف والشقاق والشعور بالقربى الوثيقة، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم، ووصل الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر، والسير جملة في الطريق.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3147