نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3140
إنها قصة بعيدة البداية، ضاربة في أطواء الزمان. وسلسلة كثيرة الحلقات، متشابكة الحلقات. ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع.
وهذه الحقيقة- على هذا النحو- حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته، ووحدة مصدره وطريقه. وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي: «اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن وتتصل كلها بالله في النهاية، فيلتقون فيه جميعا. وهو «الْعَزِيزُ» القوي القادر «الْحَكِيمُ» الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير. فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله ولا يعرف لها مصدر، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟
ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض، وأنه وحده العلي العظيم:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ..
وكثيرا ما يخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئا، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم، مسخرة لهم، ينتفعون بها، ويستخدمونها فيما يشاءون. ولكن هذا ليس ملكا حقيقيا. إنما الملك الحقيقي لله الذي يوجد ويعدم، ويحيي ويميت ويملك أن يعطي البشر ما يشاء، ويحرمهم ما يشاء وأن يذهب بما في أيديهم من شيء، وأن يضع في أيديهم بدلا مما أذهب.. الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء، ويصرفها وفق الناموس المختار، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس. وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء «لله» بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه.. «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .. فليس هو الملك فحسب، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك. العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة! ومتى استقرت هذه الحقيقة استقرارا صادقا في الضمائر، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب. فكل ما في السماوات وما في الأرض لله. والمالك هو الذي بيده العطاء. ثم إنه هو «الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ»
الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال كما لو مدها للمخاليق، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء.
ثم يعرض مظهرا لخلوص الملكية لله في الكون، وللعلو والعظمة كذلك. يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها. كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم:
«تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ، وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ..
والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير. وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس. في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا- نحن البشر- أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3140