نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3101
وهنالك أسباب وأسباب.. غير أن منطق الفطرة ينفر من هذا الجدال، ويقر بالحقيقة الثابتة في ضمير الوجود والتي تنطق بها آيات الله بعد كل جدال! وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع القوي الأخير:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ. وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» .
ومصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية وبعضها ما تزال له آثار تحكي قصته وبعضها حفظته الروايات على الألسنة، أو حفظته الأوراق والكتب. والقرآن كثيرا ما يوجه القلوب إليها، لما فيها من دلالة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف. والقرآن يخاطب الفطرة بما يعلمه منزل هذا القرآن من حقيقة الفطرة، ومساربها ومداخلها، وأبوابها التي تطرق فتفتح، بعضها بعد نقرة خفيفة وبعضها بعد طرقات كثيرة إن كان قد ران عليها الركام! وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الأرض، بعين مفتوحة، وحس متوفز، وقلب بصير لينظروا ويتدبروا ما كان في الأرض قبلهم وما يتعرضون هم لجريانه عليهم:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟» ..
وقبل أن يذكر كيف كان هذه العاقبة، يصف حال الذين من قبلهم، ويقرن إليها حالهم هم لتتم الموازنة، وتتم العبرة:
«كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» ..
توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران. ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل العرب، قص الله على رسوله بعضها، ولم يقصص عليه بعضها. ومنهم من كان العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره..
«فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
ولم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا عمارة، مما كانوا يعتزون به ويغترون. بل كان هذا هو أصل شقائهم، وسبب هلاكهم:
«فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» ..
والعلم- بغير إيمان- فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل. وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه.
وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم. واستهزأوا بمن يذكرهم بما وراءه:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3101