نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3086
ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها! والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السّلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك- في منطق العقيدة- أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! .. والحسين- رضوان الله عليه- وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين! وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال..
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم. قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا! على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد- صلّى الله عليه وسلّم- في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا. من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة. فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة.
ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية.
وفق تقدير الله وترتيبه.
وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا. ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها. وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله. وإن هنالك لأشكالا من الشرك خفية لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويطمئن إلى قضاء الله فيه، وقدره عليه، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله. ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول. وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله، ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير.
فسيكل هذا كله لله. ويلتزم. ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير.. وذلك معنى من معاني النصر.. النصر على
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3086