نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3017
يذكر داود هنا بأنه ذو القوة. وبأنه أواب.. وقد جاء من قبل ذكر قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. وهم طغاة بغاة. كان مظهر قوتهم هو الطغيان والبغي والتكذيب. فأما داود فقد كان ذا قوة، ولكنه كان أوابا، يرجع إلى ربه طائعا تائبا عابدا ذاكرا. وهو القوي ذو الأيد والسلطان.
وقد مضى في سورة البقرة بدء قصة داود، وظهوره في جيش طالوت، في بني إسرائيل- من بعد موسى- إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله. فاختار لهم طالوت ملكا. ولقي بهم عدوهم الجبار جالوت وجنوده. وقتل داود جالوت. وكان إذ ذاك فتى. ومنذ ذلك الحين ارتفع نجمه حتى ولي الملك أخيرا وأصبح ذا سلطان. ولكنه كان أوابا رجاعا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.
ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلبا ذاكرا وصوتا رخيما، يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه. وبلغ من قوة استغراقه في الذكر، ومن حسن حظه في الترتيل، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون.
وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها، وتمجيدها له وعبادتها. فإذا الجبال تسبح معه، وإذا الطير مجموعة عليه، تسبح معه لمولاها ومولاه:
«إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» ..
ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ.. الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق، حينما يخلو إلى ربه، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره. والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده.. لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ، إذ يخالف مألوفهم، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان، وجنس الطير، وجنس الجبال! ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة. وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات.. حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله: أحيائه وأشيائه جميعا. وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء، فإن تلك الحاجز تنزاح وتناسح الحقيقة المجردة لكل منهم. فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة! وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية وسخر الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا لله. وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص.
«وَشَدَدْنا مُلْكَهُ. وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» ..
فكان ملكه قويا عزيزا. وكان يسوسه بالحكمة والحزم جميعا. وفصل الخطاب قطعه والجزم فيه برأي لا تردد فيه. وذلك مع الحكمة ومع القوة غاية الكمال في الحكم والسلطان في عالم الإنسان.
ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء وكانت عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه، وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه:
«وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ؟ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ. قالُوا: لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ. وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ. إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ: أَكْفِلْنِيها، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ. قالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- وَقَلِيلٌ ما هُمْ- وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» ..
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3017