نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2916
وإنه لكذلك. فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح. ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم. ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق.
إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ. وهذه موقوتة ثم تزول. أما الحق فواضح بين صريح.
والإيقاع الأخير:
«قُلْ: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي. وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» ..
فلا عليكم إذن إن ضللت. فإنما أضل على نفسي. وإن كنت مهتديا فإن الله هو الذي هداني بوحيه، لا أملك لنفسي منه شيئا إلا بإذنه. وأنا تحت مشيئته أسير فضله.
«إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» ..
وهكذا كانوا يجدون الله. هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم. كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية.
كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم. وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة. وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه. ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم. في كنفه. في جواره.
في عطفه. في رعايته. ويجدون هذا كله في نفوسهم حيا، واقعا، بسيطا، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.
«إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» ..
وأخيرا يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف:
«وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ. وَقالُوا: آمَنَّا بِهِ. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» ..
«وَلَوْ تَرى» .. فالمشهد معروض للأنظار. «إِذْ فَزِعُوا» .. من الهول الذي فوجئوا به. وكأنما أرادوا الإفلات «فَلا فَوْتَ» ولا إفلات «وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» .. ولم يبعدوا في محاولتهم البائسة وحركتهم المذهولة.
«وَقالُوا: آمَنَّا بِهِ» .. الآن بعد فوات الأوان.. «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟» وكيف يتناولون الإيمان من مكانهم هذا. ومكان الإيمان بعيد عنهم فقد كان ذلك في الدنيا، فضيعوه! «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» .. فانتهى الأمر، ولم يعد لهم أن يحاولوه اليوم! «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» .. ذلك حين أنكروا هذا اليوم، وهو غيب كان، فلم يكن لهم على إنكاره من دليل، إنما كانوا يقذفون بالغيب من مكان بعيد. واليوم يحاولون تناول الإيمان به من مكان كذلك بعيد! «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» .. من الإيمان في غير موعده، والإفلات من العذاب الذي يشهدونه، والنجاة من الخطر الذي يواجهونه. «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» .. ممن أخذهم الله، فطلبوا النجاة بعد نفاذ الأمر، وبعد أن لم يعد منه مفر.
«إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» .. فها هو ذا اليقين بعد الشك المريب!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2916