responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2902
«فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» ..
شردوا ومزقوا وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل وعادوا أحاديث يرويها الرواة، وقصة على الألسنة والأفواه. بعد أن كانوا أمة ذات وجود في الحياة.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ..
يذكر الصبر إلى جوار الشكر.. الصبر في البأساء. والشكر في النعماء. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.
هذا فهم في الآية. وهناك فهم آخر. فقد يكون المقصود بقوله: «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً» .. أي قرى غالبة ذات سلطان. بينما تحول سبأ إلى قوم فقراء، حياتهم صحراوية جافة. وكثرت أسفارهم وانتقالاتهم وراء المراعي ومواضع الماء. فلم يصبروا على الابتلاء. وقالوا: «رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» ..
أي قلل من أسفارنا فقد تعبنا. ولم يصحبوا هذا الدعاء باستجابة وإنابة لله تستحق استجابته لدعائهم. وكانوا قد بطروا النعمة، ولم يصبروا للمحنة. ففعل الله بهم ما فعل، ومزقهم كل ممزق فأصبحوا أثرا بعد عين، وحديثا يروى وقصة تحكى.. ويكون التعقيب: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. مناسبا لقلة شكرهم على النعمة، وقلة صبرهم على المحنة.. وهو وجه رأيته في الآية والله أعلم بمراده.
وفي ختام القصة يخرج النص من اطار القصة المحدود، إلى اطار التدبير الإلهي العام، والتقدير المحكم الشامل، والسنة الإلهية العامة ويكشف عن الحكمة المستخلصة من القصة كلها، وما يكمن فيها وخلفها من تقدير وتدبير:
«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ. إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
لقد سلك القوم هذا المسلك، الذي انتهى إلى تلك النهاية، لأن إبليس صدق عليهم ظنه في قدرته على غوايتهم، فأغواهم، «فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. كما يقع عادة في الجماعات فلا تخلو من قلة مؤمنة تستعصي على الغواية وتثبت أن هنالك حقا ثابتا يعرفه من يطلبه ويمكن لكل من أراد أن يجده وأن يستمسك به، حتى في أحلك الظروف. وما كان لإبليس من سلطان قاهر عليهم لا يملكون رفعه. فليس هنالك قهر لهم منه ولا سيطرة عليهم له. إنما هو تسليطه عليهم ليثبت على الحق من يثبت، وليزيغ منهم من لا يبتغي الحق ويتحراه. وليظهر في عالم الواقع «مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» فيعصمه إيمانه من الانحراف، «مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ» ..
فهو يتأرجح أو يستجيب للغواية. بلا عاصم من رقابة لله ولا تطلع لليوم الآخر.
والله يعلم ما يقع قبل ظهوره للناس. ولكنه سبحانه يرتب الجزاء على ظهوره ووقوعه فعلا في دنيا الناس.
وفي هذا المجال الواسع المفتوح. مجال تقدير الله وتدبيره للأمور والأحداث. ومجال غواية إبليس للناس، بلا سلطان قاهر عليهم، إلا تسليطه ليظهر المكنون في علم الله من المصائر والنتائج.. في هذا المجال الواسع تتصل قصة سبأ بقصة كل قوم، في كل مكان وفي كل زمان. ويتسع مجال النص القرآني ومجال هذا التعقيب، فلا يعود قاصرا على قصة سبأ، إنما يصلح تقريرا لحال البشر أجمعين. فهي قصة الغواية والهداية وملابساتهما وأسبابهما وغاياتهما ونتائجهما في كل حال.
«وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2902
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست